بين فنزويلا والولايات المتحدة حقيقة جارحة!
تملك فنزويلا حتى اليوم كمية هائلة من النفط، حيث يقبع خُمس احتياطيات البترول العالمية تحت أقدام ورثة هوغو تشافيز، ومع ذلك لم يتغير وضع النفط، ورغم الاضطرابات التي سببها فيروس كورونا المستجد في قطاع الطاقة، لم يتأثر سوق النفط أيضاً، لكنّ السياسة ومظاهر الدمار هي التي أثّرت في الوضع، فأحياناً يكون هذان العاملان متلازمَين.يملك الفنزويليون النفط لكنهم يفتقرون إلى الرساميل المُنتِجة التي يحتاجون إليها، ولهذا السبب لا يملكون البنزين لسياراتهم ولا غاز البروبان لمطابخهم، ولا يملك الفنزويليون الوقود للطبخ، حتى أنهم لا يجدون أي طعام لطبخه: تتنقل السلع الغذائية في الشاحنات، لكنّ غياب البنزين أو الديزل يعني توقف عمليات تسليم الأغذية، وعلى صعيد آخر تحتاج الجرارات وأنظمة الري إلى البترول، إذ لا يمكن تشغيل أي مزرعة من دون ديزل وبروبان. وفي ظل غياب كميات كافية من النفط القابل للاستخدام، لا يحصل الفنزويليون على أبسط ضروريات الحياة، كما أنهم يفتقرون إلى المدخول الذي كانوا سيكسبونه من بيع النفط إلى جهات متعطشة لمصادر الطاقة حول العالم.
ما حصل في فنزويلا هو أشبه بنسخة عدائية من الخطوات التي اقترحتها السيناتورة الأميركية إليزابيث وارين وزملاؤها في الولايات المتحدة، حيث تقترح وارين جعل الشركات الكبرى تحت سيطرة الحكومة الفدرالية عبر مطالبتها بتأمين إذن فدرالي بالعمل ومنح الحكومة صلاحية إملاء تشكيلات مجالس الإدارة في الشركات والتحكم بمختلف القرارات، بدءاً من التعويضات وصولاً إلى الاستثمارات. لا تقترح السيناتورة وارين أن تمتلك الدولة وسائل الإنتاج، وهو ما ينص عليه النموذج الماركسي اللينيني الكلاسيكي، بل يجب أن تتصرف الدولة برأيها وكأنها تملك تلك الوسائل.عمدت حكومة هوغو تشافيز إلى إلغاء عقود الطاقة المبرمة، وانتهكت حقوق الملكية وطلبت من شركات النفط أن تعيد تنظيم مشاريعها تحت رعاية وسيطرة الدولة الفنزويلية عن طريق شركة النفط الوطنية PdVSA، وأبدت معظم شركات النفط ردوداً متفاوتة على هذا الاقتراح. في النهاية، لا يزال الازدهار هشاً، إذ لم تكن فنزويلا مكاناً مثالياً قبل تشافيز، لكنها شملت على الأقل عدداً من المؤسسات الفاعلة وكان قطاع الطاقة جزءاً منها، ولكن هذا القطاع انهار الآن، وما حصل لم يكن عبارة عن عملية تفكيك مقصودة تمهيداً لإنشاء كيان أفضل، بل يعكس الوضع القائم شكلاً ناشطاً من الاشتراكية: إنها الاشتراكية الحقيقية التي لم يجرّبها أحد سابقاً برأي البعض، لكنها نجحت في قتل ملايين الناس حول العالم على مر قرن كامل تقريباً. وأمام هذا الوضع طالب الديماغوجيون بأن تعود الشركات لتوظيف العامل الأميركي مجدداً، بما يتماشى مع مبادئ النزاهة والوطنية، واتّضح أخيراً أن أصحاب النفوذ الذين يتكلون على ثرواتهم يستطيعون الاستغناء عن العامل الأميركي بكل سهولة. يريد الكثيرون حول العالم أن يصنعوا الأشياء ويشتروا السلع، ومن المعروف أن الرساميل تتجه إلى الأماكن التي تناسبها، ولا شك أن المستقبل سيتخذ المسار الذي يناسبه أيضاً، فالتاريخ لم يكن يوماً مجرّد سهمٍ يسير في اتجاه واحد نحو التقدم والازدهار. بعبارة أخرى، يجب ألا يظن البلد الغني أن ثروته تحميه من هذا الواقع، فعند ولادة السيناتورة وارين، كانت فنزويلا رابع أغنى دولة في العالم! وما يثير الصدمة أن فنزويلا لا تزال دولة غنية جداً، رغم تراجع أسعار النفط اليوم، إذ تساوي قيمة احتياطياتها المعروفة نحو 15 تريليون دولار بسعر السوق، أي أكثر من نصف مليون دولار بقليل لكل رجل وامرأة وطفل في البلد، لكن لن يستفيد أحد من هذه الثروة طوال عقود على الأرجح وسيبقى الشعب غارقاً في مستنقع الركود والجوع، ولن تكون تلك الثروة مصدر غنى بل مجرّد نفطٍ في الأرض، بما يشبه الذهب الذي يقبع في المناجم.يظن سياسيون من أمثال إليزابيث وارين وهوغو تشافيز أنهم يستطيعون أن يعيدوا رسم معالم العالم عبر إصدار الأوامر وفرضها على الناس والمؤسسات بكل بساطة، لكنّ السياسة ليست لعبة سحرية والواقع ليس اختيارياً، نعم يستطيع هؤلاء السياسيون أن يتكلموا قدر ما يشاؤون، لكن لا مفر من أن تفرض الحقيقة نفسها وتجرحهم! * «كيفن ويليامسون»