التحالف الأميركي مع الناتو يحتاج إلى التغيير
بعد ثلاثين سنة على انتهاء الحرب الباردة، يواجه حلف الناتو تهديداً وجودياً بطبيعته، لا يتعلق مصدر الخطر بغزو روسي محتمل لأوروبا الغربية، بل باندلاع حرب بين اليونان وتركيا المنتسبتَين إليه، فقبل وقوع ما لا يتصوره عقل، يتعين على الولايات المتحدة أن تعيد تقييم مستقبل الناتو ودورها فيه.لطالما كانت العلاقات بين تركيا واليونان عدائية، ومنذ انتسابهما إلى حلف الناتو عام 1952، أوشكتا على خوض الحرب مرتَين، في المرة الأولى هدّد مجلس عسكري يوناني في 1974 بضم كامل قبرص إلى بر اليونان الرئيسي، فغزت القوات العسكرية التركية الجزء الشمالي من الجزيرة واندلعت مواجهة محتدمة وانقسمت الجزيرة منذ ذلك الحين.وفي المرة الثانية، تواجه البلدان في بحر إيجه في 1996، فكاد الخلاف البسيط الذي بدأ على شكل عملية إنقاذ قامت بها سفينة يونانية جنحت قبالة الساحل التركي يتحول إلى حرب شاملة بين البلدين بسبب مطالبة كل طرف بفرض سيادته على المنطقة.
لم يتصاعد ذلك الصراع لكن لم تبرد المشاعر والاضطرابات بالكامل، ومع اكتشاف رواسب ضخمة من الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، زادت أهمية تحديد الجهة التي تملك الحق بفرض سيطرتها على تلك الصخور. تتخذ تركيا موقفاً أكثر صرامة بكثير وتضع مصالحها الوطنية فوق المصالح المشتركة لحلف الناتو.تساءل نائب الرئيس التركي في إحدى المقابلات: "إذا كانت محاولة اليونان توسيع مياهها الإقليمية ليست مبرراً للحرب، فهل من سبب أهم لخوض الحروب"؟ لكن لا تكتفي أنقرة بمحاربة اليونان.تشهد العلاقات بين تركيا وفرنسا تصدعاً مستمراً بسبب استياء باريس من تورط أنقرة المتزايد ضد المصالح الفرنسية في ليبيا، فقد حذر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس من اقتراب اليونان وتركيا من الهاوية مع مرور كل يوم وتوقع أن تؤدي أبسط شرارة إلى كارثة كبرى ما لم يحلّ الطرفان خلافاتهما. في غضون ذلك، أرسلت فرنسا والإمارات العربية المتحدة طائرات وسفن حربية لدعم اليونان، ومن مصلحة قبرص وإسرائيل ومصر في المقابل أن تنقّب عن الهيدروكربونات في شرق البحر الأبيض المتوسط. من الواضح أن هذه التحركات لا تعكس أي تقارب بين الحلفاء، بل إنها تطرح أدلة متزايدة على فشل الحلف في التكيّف مع تطورات الزمن المعاصر.في زمن الحرب الباردة عام 1952، حين انتسبت تركيا واليونان إلى حلف الناتو، كان العالم مبنياً على استعداد مجموعة من البلدان الحرّة نسبياً لوضع خلافاتها جانباً لتحقيق مصلحتها المشتركة والتصدي لقوة الاتحاد السوفياتي، لكن ذلك العالم انتهى مع تفكك الاتحاد، وبدل الاعتراف بالظروف العالمية المتبدلة وتعديل حلف الناتو بناءً عليها، تمسّك الغرب بالماضي وحاول تحويل وضع المراوحة إلى مستقبل جامد، وما لم تتحرك الجهات المعنية في أسرع وقت، فقد يكلّفها رفضها الاعتراف بالواقع خسائر تفوق بنية التحالف المشترك.اشتكى جميع الرؤساء الأميركيين، من ترومان إلى ترامب، من امتناع الدول الأعضاء الأوروبية في حلف الناتو عن دفع أموال كافية لضمان أمنها، مما أدى إلى زيادة الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة، لكن المشكلة لم تعد تقتصر على دفع أموال أوروبية إضافية، بل تثبت الحرب المحتملة بين تركيا واليونان الحاجة إلى إقرار الإصلاحات وإحداث التعديلات.لتحقيق هذا الهدف، تقضي الخطوة الأولى بتحوّل الولايات المتحدة من جبهة دفاعية لبلدان الناتو إلى جهة داعمة، فكانت الأنظمة الديمقراطية الأوروبية خلال الخمسينيات فقيرة ومحرومة، لكن لم يعد الوضع كذلك اليوم، حيث تملك ألمانيا مثلاً رابع أكبر اقتصاد في العالم وتسمح لها قدراتها المادية بالحفاظ على أمنها بنفسها، وفي المقابل يُفترض أن يُعاد نشر القوات الأميركية في القواعد المحلية حيث تُركّز على الدفاع عن الحدود الأميركية والمصالح العالمية.يجب أن يشمل أي نظام تحالف عسكري تنتسب إليه الولايات المتحدة مصالح متبادلة بين الدول ويُفترض أن يُمهّد لتقوية الدفاعات الأميركية، أي يجب ألا يكون التحالف باتجاه واحد فتقدم الولايات المتحدة معظم المنافع لدول أخرى وتتحمل معظم المخاطر التي ترافق أي حرب جديدة، لا سيما الحروب التي ما كانت لتطرح أي خطر عليها لولا تدخلها المباشر فيها.كان صانعو السياسة الأميركيون طوال عقود غير مستعدين للتفكير بتعديل بنية حلف الناتو، لكن إذا فشل البلد في اتخاذ هذه الخطوة المنطقية اليوم، فقد يتكبد خسائر تتمثل بالتدمير الذاتي للحلف حين تبدأ الدول الأعضاء بتبادل إطلاق النار وتضطر الجهات الأخرى للانحياز إلى طرف دون الآخر. سيكون استهداف المشكلة في ذلك التوقيت الأسوأ على الإطلاق ولا مفر من أن تتأثر المصالح الأميركية، ويجب أن يتحرك الأميركيون فوراً لأن الوقت يسمح حتى الآن بتجنب الكارثة.* «ديفيد ديفيس»