هديل داود: نشأتُ في بيت متواضع عماده بطل عاشق للأرض والوطن
اعتبرت أن الشعر بنية لغوية معرفية جمالية
قصيدتها عنوان للجمال والاختلاف عن الدارج والمألوف، كلماتها تلمس المشاعر وتخاطب الإنسانية، بقدرة فائقة واحترافية شديدة على استعمال اللغة بطريقة أنيقة ومعبرة تتدفق بسهولة إلى وجدان المتلقي كماء عذب.
في حوار مع «الجريدة» فسرت الشاعرة الفلسطينية المقيمة في الأردن، هديل داود، عشقها للقصيدة النثرية بأنها تحمل طابعاً للتمرد الإنساني، لافتة إلى أن قصيدتها تنساب بلا تعقيد يرافقها صوت سردي، كما ترى أن اللغة هي مفتاح الإبداع نتسلق سلالم حروفها بالكتابة... وإليكم التفاصيل:
في حوار مع «الجريدة» فسرت الشاعرة الفلسطينية المقيمة في الأردن، هديل داود، عشقها للقصيدة النثرية بأنها تحمل طابعاً للتمرد الإنساني، لافتة إلى أن قصيدتها تنساب بلا تعقيد يرافقها صوت سردي، كما ترى أن اللغة هي مفتاح الإبداع نتسلق سلالم حروفها بالكتابة... وإليكم التفاصيل:
• كيف أسهمت سنوات النشأة في بزوغ نجمك شاعرة؟- نشأتُ في بيت متواضع،عماده بطل عاشق للأرض والوطن، علمني الصبر والكبرياء والشجاعة والاعتماد على النفس، قطف لي من غمام السماء سنابل لروحي، كبرت وترعرعت كزهرة ندية تجيد تقبيل الشمس ورسم الأحلام ومحادثة الزهور، تنقلت بين المدينة والريف، وكنت أسمع الشعر المحكي بشغف من جدتي حتى حملت دهشتي وإعجابي بها وبشعرها في ليالي السمر على ضوء القنديل ووشوشة النجوم، فعشقت الحرف صوتاً وكتابة وبرزت اهتماماتي الأولى بقراءة كتب أدب الطفل، وقرأت روايات كثيرة وأدباً مترجماً وشعراً قديماً، ثم برز اهتمامي بشعراء وكتّاب الأدب العربي الحديث الذين جمعوا بين النثر والشعر، وكتبت أول نصوصي وكان على هيئة قصيدة وجدانية، مستخدمة فيها لغة الحديث المألوف، وصوراً بيانية تعبيرية وانفعالية ذاتية وملتصقة بتجاربي الشخصية، ورؤيتي للحياة وقتها. كنت أقرؤها لعائلتي وزميلاتي ومعلماتي وشاركت أول نص لي في مسابقة أدبية وفاز بالمركز الأول. وتطورت نصوصي، وربطت عواطفي وأحاسيسي وأفكاري ببعضها، لتخلق روحاً عامة لقصيدتي التي أعتبرها «كائناً حيّاً»، فكل حرف يحدد مكانه في هذا الجسد... أنسج بها بساط الياسمين في وعر الكون وحصلت على جوائز عِدة ولم أتوقف عن الكتابة طوال رحلتي، كنت أهرب من محاصرة الوهم والزيف إلى الريف،لأتغنّى بالأمل، والحياة، والتجدد.
اللغة الشعرية
• بأيهما تنشغلين أكثر: اللغة أم تقنية الكتابة؟- إن جوهر الشعرية وسرّها في اللغة، ابتداء بالصوت ومروراً بالمفردة ثم التركيب الشعر هو تجربة، فالكلام تجلّ لها ولأحاسيس الشاعر في تلك التجربة، فالشاعر يعي العالم جماليّاً، ويعبّر عن ذلك جماليّاً، ومن هنا فالشعر بنية لغوية معرفية جمالية، وما تحليل بنية اللغة الشعرية سوى للكشف عن حيازة الشاعر الجمالية للعالم، وسماحه الربط بين اللغة والرؤية، فاللغة مفتاح الإبداع نتسلق سلالم حروفها بالكتابة وأتناول لغتي بتعصّب، بمفرداتها شعراً أو نثراً، وأتغنّى بها زهرة حياة وبسمة أمل لكل قلب يفيض بالحياة، يصنع فرحاً وأملاً، لغتي هي صوتي الداخلي المنبثق من أعماقي وأحاول استثمار كل أدواتي الفنية، محاولةً كسر نظام كتابة المألوف، بهدف زيادة عدد الدلالات الممكنة، أعبر بالصورة البصرية، لأبني نسيجَ شِعري الذي يظهر في أشكالٍ عِدة، مليئة بأفكارٍ شغلت بالي في بحبوحة حياتي اليومية، محتاجة أحياناً الخروج عن المعايير المألوفة، لتعطي أبعاداً جمالية ودلالية في جسد القصيدة، عميقة التعبير، فريدة.ضيق التفاعيل
• كيف تنامت وتشكلت ملامح قصيدتك، مع كل ديوان جديد، بدءاً من كتابك الأول «رحيل الذاكرة» وصولاً إلى أحدث أعمالك؟ - من رسائل قصيرة إلى خواطر خجولة مترددة في الظهور للناس، في دفاتر مذكرات، إلى قصيدة نثر قصيرة، خائفة، تجمع اليتم بالترمل، تحمل صور طفولة بين غربة وفقر وأسر وقضبان، إيقاعها مرتبك، ذبح لظاها عالم مضطرب، تردد ألفاظ السلام والدفء، وأحاول في كل مرة رسم ملامح جديدة لكل قصيدة، بحيث تبدو كأنها تُرى للمرة الأولى، وقصيدتي اليوم ذات إيقاعية هادئة، متحررة من ضيق التفاعيل وملازمتها، ومراوغتها، فقصيدتي تنساب بلا تعقيد، يرافقها صوت سردي، وجدت فيها الدربة والرهافة، عرفت كيف تدخل إلى أعماق الإحساس، وأبصرت رؤاه الخفية المتدارية والمقصيّة في غياهب حالكة، مكانها يختصر التاريخ واللغة والعالم، في حاضرٍ مدهشٍ حزين ومعتاد، لكنه طارد، تشبع مخيلتي، تصطاد وتقتنص أدق دفقات الشعور بلا حدود، غدت كالإسفنجة كلما امتصت حزني في كل سطر، بصمتٍ وسوادٍ، كبرت جماليتها المتسربلة بشجنِ رحيلٍ وذاكرة وغبار سفرٍ وحقيبة، تتألق، ونوافذ معلقة على شرفات انتظار تتسلّق، وأرواحٍ لزنابقٍ، لا زالت تحلّق، متدارية بالهم ومتلفعة بالأسى، على ما تركته من أعتابٍ وأقفالٍ تنظر أكلها الصّدأ، ومناديل تلوّحُ في المرافئ والحدود، ووطن جريحٍ وخبزِ تنّور، وحب ولدِ ولم يرَ النور عميقة، مكثفة الخيوط، مثخنة بالجرح، ملتاعة في مسارب نفسٍ ولهى، اتسع شعورها، فضاق عليها التعبير، إلا في قالبٍ عميق مكثف «رسائل أفق».قصيدة النثر
• ما الذي يستهويك في قصيدة النثر، ولا يحققه لك نمط الشعر الكلاسيكي؟- أرفض القيود واتنقل بين الزهور وأضع رحالي في مواطن الجمال، وتكتمل بالزهر ووصف أنفاسها العطرة. أعشق القصيدة النثرية، لأنها تحمل في طياتها طابعاً للتمرد الإنساني وما لتمردها من قوة خلابة، فهي وُلِدَت من رغبة في التحرر والانعتاق من تقاليد مسماة «شعرية» وعروضية، فالنثر على نقيض الشعر، يمقت القوالب الجاهزة، والإيقاعات المفروضة، قصيدة النثر هاربة من الشعر داخل النثر ومن التراكيب البلاغية، والسمات المنطقية المفخمة، مرنة، تخلق شكل تطورها، وقدرتها على استيعاب مفردات طازجة وتسمية الأشياء بأسمائها، أغنت الشاعرية ببضع صيغ جديدة. وشاعر النثر، متمرد على كيان الأشياء، وقوانين اللغة، والتأليف والعقل، آملاً إلى الرغبة في صياغة حلمه الأزليّ، من خلال توحيد حواسه، وربطها بالبناء الداخلي، لعالم تلك الكلمات.• ما الذي يستفزّكِ كشاعرة للكتابة؟- القصيدة هي اللحظة اللغوية والنفسية والوجدانية الخاصة ولا شك أن لأي شاعر دوافعه لكتابة القصيدة، كما أن للقصيدة في بعض الأحيان، أوقاتاً سرّيّة خاصة، تُقبل فيها ليّنة ريّانة، مثقلة بالملذات، تشق طريقها من خلال لحظة تأمل لمنظر صامت أمامي، أو مناسبة خاصة، دهشة للجمال، إزاحة ستار عما فيها من أمل، استغاثة مكبوتة لتوغل الشر في العالم، انتصار لضحية عزلاء تواجه جلاداً لا رادع له، والأهم هو أن تتحول كل خبرة واقعية إلى لحظة شعرية متمردة، بعد أن يشربها الجسد والروح، ولكل شاعر طقوسه للكتابة، وبالنسبة إليّ: ليلة هادئة وشموع تتوهج أمامي في الظلام، كافية لتؤثر في قريحتي الشعرية وتريح نفسي وتحفزني للكتابة على ورق بلا أسطرٍ بحبرٍ أسودٍ سائل، أو قلم رصاصٍ أنيق أو وقت دخول أجواء المطر والنقاط السوداء في ردائي الأبيض، سباتٌ يغرق الجميع، وأنا وحدي يفترسني الفراغ، أكتب في ركن صغيرٍ برفقة قهوتي أراقبُ الكون وأتصارع مع بعثرة أفكاري في بئرٍ مظلمة، هاجساً يفجّر ماءها، وحيدة في حياة فرضت عليّ، كلها تساؤلات عن الوجود والموت، أستعيد خطى المارين وسقطات الساقطين، أتتبع أثرهم، وأنادي من لا تزال روحه تعبق في المكان، أعانقُ ظلي المهمل البعيد المعزول المعتاد القابع في المجهول.«رحيل الذاكرة»
• ما المشروع الأدبي الذي تعكفين عليه راهناً؟- كتبت القصيدة النثرية والشعر المحكي وكتبت أعمالاً للأطفال من قصص وأغانٍ، وكتبت رواية وحيدة، وأصدرت أول كتاب لي من ثلاثة أجزاء «رحيل الذاكرة»، والآن أحاول كتابة نصوص تحمل قصة ومضة، حيث التكثيف هو سيد الموقف، وحيث الإدهاش، الإيحاء، النهاية المباغتة، بلاغة الحذف والتكثيف وسأعود لرسائلي كما بدأتها، موجزة من سطر وعنوان يحمل الكثير من التوقعات والدلالات، رسائل إبداعية تحمل الديمومة والاكتمال، تستنطقُ كوامن الذات ومراكز الإحساس، تجاذبُ الرّوحِ والعقل معاً وستكونُ بعنوان «رسائل الأفق».
القصيدة النثرية ولدت من رغبة الانعتاق والتحرر من التقاليد العروضية
القصيدة كائن حي وكل حرف يجد مكانه في هذا الجسد
القصيدة كائن حي وكل حرف يجد مكانه في هذا الجسد