اللغة العربية مستودع حضارة الأمة ومرآة فكرها
في دراسة رصينة أعدها الباحث مهتدي مصطفى غالب عن الدور الحضاري لـ «لغة الضاد»
قدّم الباحث مهتدي مصطفى غالب دراسة رصينة عن اللغة العربية، مبيناً أن اللغة تعد من أهم الملامح التي تكون هوية الأمة وتميّزها عن غيرها، فاللغة هي العنصر لأيّ ثقافة أو حضارة، مستعرضاً أهم التطورات التي مرت بها لغة الضاد، ومحدداً جماليات لغتنا من خلال السطور التالية:اللغة كائن حي، وكلّما اتسعت حضارة أمة، نهضت لغتها وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودخلت فيها ألفاظ جديدة عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس، أو الاقتراض للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، فتحيا هذه اللغة وتتطور عبر الزمن وتتلاقح مع غيرها من اللغات.اللغة أساس وحدة الأمة، ومستودعُ حضارتها، ومرآة فكرها، فهي نشاط الفكر وصداه الذي يتردد في آفاق المجتمع ورحاب النفس، وهي القدر المشترك من الحياة والنفسية بين أبناء الأمة الواحدة، في إطارها يتم تفاعل الأفكار، وفي نظام رموزها يتم التعبير عن التنظيم الكامل لحياة الحضارات وأنماط أفكارها.
واللغة العربية أمانة في عواتق الناطقين بها، والحفاظ عليها مسؤولية مشتركة بين جميع فئات الأمة، وهي التراث والهوية اللذان يعتبران مصدرين يقومان بالامتياز عن الآخرين، ومبعث فخر ومصدر اعتزاز لأبنائها، فالحفاظ على ذلك ضرورة حياة، فالأمة العربية تملك ثقافة عربية إنسانية ورسالة حضارية، وهي اليوم تواجه حرباً شرسة تستهدف لغتها وتاريخها وتراثها وهويتها، والتراث العربي ثروة إنسانية حضارية أغنت المعرفة الإنسانية عبر العصور، وأن تبقى اللغة العربية حيَّة ومنتجة وفاعلة وصامدة وقادرة على استيعاب المنجزات الحضارية وفاعلة في المجتمع ومقبولة في المجالات المختلفة من صناعة وتجارة ووسائل إنتاج وصياغة المواد العلمية والإعلامية وغيرها، وهي اللغة التي تمتاز بفطريتها وحيويتها وبمقدرات لغوية كثيرة سنشير إليها فيما بعد.اللغة والإنسان: اختلف العلماء في تعريف اللغة ومفهومها، وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة، ويرجع سبب كثرة التعريفات وتعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم.
الدلالة اللغوية
مصطلح «اللغـة» في الدلالة اللغوية، مشتق من «لغا»، اللغو، واللغـا؛ السقـط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على الفائـدة. ومصدرها الأصلي «لغوة «على وزن «فعلة» من لغوت؛ إذا تكلّمت.أوّل من عرف باللغة أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392هـ) في كتابه الخصائص، وهذا التعريف للغة يبدو أكثر إحاطة من بعض التعريفات العصرية، ويمكن أن نخلص إلى تعريف «اللغة نظام صوتي يمتلك سياقا اجتماعيا وثقافيا له دلالاته ورموزه، وهو قابل للنمو والتطور يخضع في ذلك للظروف التاريخية والحضارية التي يمر بها المجتمع».دور اللغة العربية الحضاري
إن الإنسانية تتكون من أقرباء لم يهتموا أبدا بأن يلتقوا، وأنّ المعرفة المشتركة هي مفتاح مهم للتعايش السلمي على كل المستويات، فالنظر إلى ما نشترك فيه كآدميين مثمر تماما، وهو أكثر إلحاحا اليوم عن أيّ وقت مضي. هذه نقطة انطلاق تتفوّق كثيرا علي الإصرار الدائم على «نحن» في مقابل «هم»، على من ينتمي في مقابل مَن لا ينتمي، وفي أسوا الأحوال، إسقاط محاور خطيرة للشر «بيننا» و»بينهم».وعانقت «العربية» وأثّرت في اللغات الأخرى؛ كالفارسية، والتركية، والأوردية، والسواحلية، فأدخلت إليها حروف الكتابة، وكثيرًا من الألفاظ، وكان تأثيرها في اللغات الأخرى عن طريق الأصوات والحروف، والمفردات والمعاني والتراكيب.اللغة العربية والتطور الحضاري
من أهم التطورات التي صاحبت اللغة العربية وأثّرت فيها، التنقيط والشكل وعلامات الترقيم في العصر الراشدي، والتطورات الحضارية التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، حيث استجابت اللغة لهذا التطور، وظهرت فيها الأنساق الزخرفية والأسلوبية، والأبنية الصياغية الدالة على التعظيم والتبجيل، وتعبير الاحتشام والتواضع في مقام السلطة، من ذلك: (إسناد الشيء إلى الحضرة والجناب والمجلس)، ثم استحداث الألقاب والنعوت للخلفاء والوزراء والكتّاب والقادة، ثم استحداث كتب العهود والرسائل والتوقيعات.ومن اللافت أن مقولة «التطوير» كانت تنحصر أحياناً في «تطوير النحو»، فظهرت دعوات تدعو إلى «التيسير»، ومن يتابع تاريخ هذا العلم، سيقرأ عن المحاولات الأولى للتيسير في القديم والحديث، وأنها كانت مصاحبة للدراسات النحوية، ويمكن أن نتابع هذه العملية التوفيقية عند واحد من أهم اللغويين القدامى، هو ابن جنّي في كتابه «اللمع»، الذي وصفه صاحبه بـ «اللطف»، إشارة إلى الهدف الذي يسعى إليه، وهو: «الإجمال والوضوح والتيسير».لكن الذي أريد الوصول إليه، أن كل هؤلاء الباحثين لم يقولوا إنهم يطورون النحو، وإنما ييسّرونه، وهكذا اللغة، لا ينطبق عليها مقولة التطوير، وإنما ينطبق عليها مقولة التطور، والنظر إلى النحو العربي في الدرس الحديث يُلحظ معه أن عملية التيسير تكاد تتم تلقائياً، ومن ثم لاحظنا غياب بعض أبواب النحو، وعندما تُذكر، تذكر بوصفها واقعة لغوية تاريخية في مسيرة النحو العربي، إذ غاب عن الدرس الحديث أبواب مثل: (التنازع - الاشتغال - الإغراء والتحذير - حبذا ولا حبذا - الترخيم)، وانحصرت دراسة مثل هذه الأبواب في المتخصصين بوصفها أبواباً تراثية كانت لها صيغها المحفوظة في الذاكرة العربية، وهنا أستعيد مقولة أبي عمرو بن العلاء، التي كثيراً ما أرددها، إن جملة هذا العالم اللغوي صريحة في أن اللغة تتطور مصاحبة للتطور الحضاري والثقافي، تتطور في مفرداتها، وفي تراكيبها، وفي أبنيتها الصرفية، ومن ثم امتلكت القدرة على التعبير عن كلّ مستجدات الحضارة في كل أزمنتها المتتابعة، وما زالت تؤدي مهمتها بكفاءة كبيرة. مما قلناه نخلص لنتيجة مهمة هي أن اللغة تعبّر عن الإنسان ومجتمعه وبيئته المكانية والزمانية وبقدر ما تعبّر عن هذا الإنسان بقدر ما تبقى حيّة ودائمة التطور، فهو تطور فطري وطبيعي وعفوي ناتج عن تطور الحياة، واللغة العربية لغة حياتية دائمة يحملها مجتمع حضاري يمتد تاريخه إلى آلاف الأعوام، وهو من أوجد أول أبجدية «الأوغاريتية»، وهو أول من وضع الرسم الشكلي للحرف وسماه الخط المسماري، وهو أول من نقل الحضارة إلى الشعوب الأوروبية عن طريق قدموس الباحث عن أخته «أوربا»، التي من أسمها أخذت أوروبا أسمها... وحين يكون المجتمع في عصر انحطاطه ستعبر اللغة عن هذا العصر، فهي أداة تعبيره الأبدية، وحين تنهض الأمة من أزماتها ترتقي اللغة وتفتح كل آفاق الحضارة والمفاهيم الحضارية أمامها، لا خوف على لغتنا طالما نحن نسعى للارتقاء بالأمة من خلال سعينا نحو بناء الأمة التي ننشد دائماً وأبداً، وستكون لغتنا في مستقبلها ومستقبلنا القريب منارة المنارات.