ذكّرتنا أحداث الأسبوع قبل الماضي بموضوع كان سيختصر مسار عام 2020 قبل انتشار فيروس كورونا: إنها ظاهرة "تفكك الغرب" (Westlessness)، حيث ظهر هذا المصطلح في التقرير السنوي الصادر عن مؤتمر ميونيخ للأمن، وهو يشير إلى طريقة تصدّع التحالف الغربي القديم، لا سيما حلف الناتو، لدرجة أنّ أحداً لم يعد يستطيع التكلم عن "الغرب" ككيان موحّد، فهذا المفهوم يعكس موقف إيمانويل ماكرون اللافت حين تكلم في نوفمبر الماضي عن "الموت الدماغي" لحلف الناتو، وتتعدد الأحداث التي تثبت صحة هذا الرأي في الفترة الأخيرة.لا تحصل أقوى المواجهات الجيوسياسية في العالم بين (الناتو) وأحد خصومه، بل داخل الحلف نفسه، حيث تتواجه اليونان وتركيا المنتسبتان إلى الحلف على خلفية حقوق النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتحديداً في محيط الجزر اليونانية وساحل قبرص، لا سيما أن الخلاف بدأ يتصاعد منذ أشهر، حتى أن الصحيفة الألمانية "دي فيلت" زعمت في 2 سبتمبر الجاري أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمر جنرالاته بإغراق سفينة يونانية.
كذلك، تتّضح معالم الخصومة بين تركيا وفرنسا في ليبيا، فغداة وقف إطلاق النار هناك في 21 أغسطس، اتّهم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ماكرون في 4 سبتمبر بـ"الجنون" بعد إقدام حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأتراك على طرد قوات أمير الحرب خليفة حفتر المدعومة من الفرنسيين في الربيع الماضي.في شرق البحر الأبيض المتوسط وليبيا، بدت ألمانيا الدولة "الصالحة" من بين أعضاء "الناتو"، فنظمت "عملية برلين للسلام" بين الطرفين في ليبيا ودعت إلى إقامة حوار بين اليونان وتركيا، لكن ألمانيا ارتكبت بدورها تجاوزات تخالف روحية "الناتو" وأهدافه.أين الولايات المتحدة من هذه الأحداث كلها؟ في 1 سبتمبر، نشر الكاتب مايكل شميت من صحيفة "نيويورك تايمز" كتابه "دونالد ترامب في وجه الولايات المتحدة"، وهو يذكر أن كبير موظفي البيت الأبيض السابق جون كيلي أخبر الآخرين بأن واحدة من أصعب المهام التي واجهها مع ترامب كانت تتعلق بمحاولة منعه من الانسحاب من حلف "الناتو". وفي 16 أغسطس صرّح جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترامب، لصحيفة "لا رازون" الإسبانية بأن ترامب قد يُحدِث "مفاجأة في أكتوبر" ويعلن انسحاب الولايات المتحدة من الحلف لزعزعة الحملة الانتخابية، ولا يزال هذا الاحتمال مشكوكاً فيه، لكن قد يقرر ترامب سحب بلده من الناتو فعلاً إذا فاز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات، واكتسب الجرأة اللازمة لاتخاذ هذه الخطوة. في المقابل، يخطئ من يظن أن إدارة بايدن المحتملة قد تعيد حلف "الناتو" إلى أمجاده، إذ يعكس هذا التفكير قراءة خاطئة للسياسة الأميركية والسياسة الخارجية وحقيقة المرشّح الديمقراطي، فلا شك أن بايدن، إذا فاز بالرئاسة، سيكون أكثر دبلوماسية من سلفه فينضم مجدداً إلى اتفاقيات متعددة الأطراف مثل الاتفاق النووي الإيراني واتفاق باريس للمناخ، لكنه يدرك في الوقت نفسه أنه يحكم بلداً بات أقل تسامحاً مع المغامرات الخارجية ويواجه مشاكل داخلية خاصة به، ومن المتوقع أن يتقرر مصيره في منطقة المحيط الهادئ لا المحيط الأطلسي.كل من ينظر إلى الوضع على المدى الطويل قد يلاحظ أن نائب وزير الخارجية الأميركي ستيفن بيجون قارن في 31 أغسطس بين ظهور "الجبهة الرباعية" (الولايات المتحدة، اليابان، الهند، أستراليا) ونشوء حلف "الناتو"، ومن المستبعد أن تقتنع الهند اليوم بأي اقتراح مرتبط بتأسيس نسخة من "الناتو" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكنّ إقدام مسؤولين أميركيين بارزين من أمثال بيجون على إقامة المقارنات بين التحالفات الآسيوية و"الناتو" يعكس وقائع جديدة.من المتوقع أن تتمحور مقاربة الناتو مستقبلاً حول تحديد الأولويات في شرق أوروبا والدول السوفياتية السابقة، وثمة إجماع أصلاً بين الولايات المتحدة والأوروبيين في هذا المجال، لكن قد يضطر الاتحاد الأوروبي في المقابل لتحمّل مسؤوليات إضافية في محيطه، لا سيما في منطقة البحر الأبيض المتوسط، كذلك ستُركّز الحكومات الأميركية المستقبلية بشكلٍ أساسي على توازن القوى بينها وبين الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.يسهل أن نعتبر ترامب السبب الأول لـ"تفكك الغرب"، لكن على أرض الواقع، يبدو الرئيس الأميركي مجرّد جزء بسيط من أعراض هذه الظاهرة.* جيريمي كليف
مقالات
تصدُّع الناتو مؤشر على تغيّر ميزان القوى العالمي
23-09-2020