ماذا بعد فشل محاولة ترامب التخلص من مادورو؟
بعد سنة ونصف على تراجع العائدات المحلية منذ الاعتراف بخوان غوايدو رئيساً بالوكالة وفرض عقوبات نفطية هائلة وصلت الاستراتيجية الأميركية في فنزويلا إلى مفترق طرق، وأصبح صانعو السياسة فيها أمام مسارَين: يمكنهم أن يتمسكوا باستراتيجية "الضغوط القصوى" والتهديد باستعمال القوة أو اختيار مسار براغماتي يدعم مفاوضات أكثر مرونة تمهيداً لإطلاق عملية انتقالية ديمقراطية.اليوم، يسيطر رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو على الوضع أكثر من أي مرحلة أخرى منذ أغسطس 2017، حين فُرِضت أولى العقوبات على قطاعات متنوعة في فنزويلا، فنجحت حكومته في إخماد سلسلة من الاحتجاجات الحاشدة في السنوات الأخيرة ووقفت قيادة الجيش إلى جانبه في مختلف المواقف الصعبة، وبسبب تدهور الظروف المعيشية قبل فرض العقوبات نتيجة سوء الإدارة واستفحال الفساد، يفتقر معظم الشعب الفنزويلي اليوم إلى السلع الغذائية والأدوية وضروريات أخرى.تكشف التجارب السابقة أن المقاربة الأميركية في فنزويلا ستعمّق وضع المراوحة القائم، فقد فرضت واشنطن حظراً تجارياً على كوبا لأكثر من 50 سنة، ومع ذلك بقي النظام الداخلي على حاله وكان الشعب الكوبي من أكبر المتضررين، بالإضافة إلى تضخيم المعاناة البشرية، فتاريخ العقوبات الاقتصادية الكبرى يثبت أن هذه الأداة ليست طريقة فاعلة لدعم العمليات الانتقالية الديمقراطية. حتى أنها تفشل في تحقيق هدفها المعلن في ثلثَي المرات، وقد تُضعِف قدرة المجتمع المدني على التصدي للأنظمة المستهدفة.
لحسن الحظ، لم يفت الأوان بعد على تغيير هذا المسار، فبعد استرجاع الهدوء غداة الانتخابات الأميركية الرئاسية في نوفمبر المقبل والانتخابات التشريعية الشائبة في فنزويلا في بداية ديسمبر، سيحصل صانعو السياسة في واشنطن على فرصة قيّمة لإعادة ضبط العلاقات، وبغض النظر عن هوية الرئيس القادم للبيت الأبيض، فإنه يستطيع أن يعطي السياسات المعتمدة منحىً أكثر إيجابية. قد يبدأ أي مسار مثمر بالاعتراف بأن الضغط وحده ليس استراتيجية مناسبة، ولتفعيل هذه المقاربة، يجب أن يكون الضغط الدولي على حكومة مادورو ذكياً ومُركّزاً ويحاول تحقيق نتائج واقعية وملموسة. أدت العقوبات المفروضة على القطاعات المحلية إلى تفاقم الأزمة، وانعكست سلباً على عمل المنظمات غير الحكومية المستقلة، لكن تكشف أدلة أخرى أن العقوبات المستهدفة ضد الأفراد لها أثر أكبر داخل حكومة مادورو، ويجب أن تتابع الحكومة الأميركية استعمال تلك العقوبات الفردية لتصعيد الضغط الداخلي وإحداث تغيير حقيقي. في المقابل، يجب أن تتخلى عن الاستراتيجية الفاشلة التي تتكل على العقوبات كأداة مباشرة لتغيير النظام بالقوة، وعلى صانعي السياسة الأميركية أن يفكروا برفع تلك العقوبات مقابل تنازلات فورية مثل تحسين الظروف الانتخابية، وإعادة إحياء أحزاب المعارضة، والسماح بفرض رقابة دولية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين.تتطلب هذه الاستراتيجية مقاربة أكثر مرونة للخطوط الحمراء التي يحددها البيت الأبيض، وبدل التركيز على النقاشات التكتيكية الداخلية، يجب أن تسمح الولايات المتحدة للمعارضة بإيجاد الحلول بنفسها، وبدل الإصرار على حصر التفاوض بموضوع استقالة مادورو، يجب أن تُركّز وزارة الخارجية الأميركية على دعم تنفيذ الاتفاقيات الجزئية بين حكومة مادورو والمعارضة، منها الاتفاق الجديد لمعالجة الأزمة الصحية بالتعاون مع "منظمة الصحة للبلدان الأميركية". ثمة حاجة إلى عقد اتفاقيات إضافية بين الجهات الفنزويلية المؤثرة لمعالجة المشاكل الإنسانية الطارئة، ويُفترض أن يحرص الدبلوماسيون الأميركيون على تفعيل تلك الاتفاقيات الجزئية لاكتساب الزخم المطلوب وإطلاق مفاوضات سياسية على نطاق أوسع.أخيراً، يجب أن تعترف الولايات المتحدة بأنها لا تستطيع أن تطلق أي مسار جديد وحدها، إذ تبدأ أي مقاربة فاعلة باسترجاع إجماعٍ متعدد الجوانب حول ضرورة إطلاق عملية انتقالية ديمقراطية يتم التفاوض عليها محلياً، وقد أدى انقلاب المرتزقة الفاشل في شهر أبريل الماضي وتصريحات المسؤولين الأميركيين الطائشة وتلويحهم بـ"الخيار العسكري" المتهور والمستبعد إلى تضرر الإجماع الدبلوماسي في أميركا اللاتينية وأوروبا، يجب أن يرفض صانعو السياسة الأميركية صراحةً أي مقاربة أحادية الجانب ويتعاونوا مع شركائهم الدوليين للتشديد على ضرورة إيجاد حل سلمي للأزمة القائمة. رغم توسّع النزعة الاستبدادية في فنزويلا، يثبت استمرار المقاومة المدنية هناك أن مادورو لم ينجح بعد في فرض سيطرته بالكامل، فواشنطن تستطيع أن تشارك في منع غرق فنزويلا في مستنقع الاستبداد لكنها تحتاج إلى إطلاق مسار جديد لتحقيق هذا الهدف، ويجب ألا يكرر هذا المسار أخطاء استراتيجيات تغيير النظام التي ترتكز عليها مقاربة "الضغوط القصوى" بعدما أثبتت فشلها في أماكن أخرى.* جيف رامزي