«الرئيس» إذا كتب و«الشيخ» إذا روى
قبل أن ينتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية عمل فترة لا بأس بها في الصحافة والمحاماة، كان شارل الحلو يكتب في صحيفة "لوريان لوجور" لصاحبها جورج نقاش، وكانت تصدر باللغة الفرنسية، هذا الرئيس اشتهر بوقفاته اللاذعة وتعبيراته الناقدة وحسه الصحافي، وكان عهده استمراراً لنهج سلفه الرئيس فؤاد شهاب. يتداول أهل الصحافة والسياسة قصة تروى عنه كلما أرادوا "توصيف" الصحافة اللبنانية في عز مجدها وازدهارها، حيث كان الرئيس يلتقي أصحاب الصحف بحضور نقيب الصحافة في حينه زهير عسيران كلما مر البلد بأزمة وما أكثر الأزمات، فالمرحلة التي حكم فيها اتسمت بالصراعات والأزمات لكن لبنان بقي صامداً بفضل إدارته للدولة التي انتشلها من الوقوع في المستنقع كما هي الحال الآن! ذات يوم دعا الرئيس "حلو" مالكي الصحف إلى القصر الجمهوري وراح يصافحهم واحداً تلو الآخر ويسأل كل واحد منهم عن الحاكم الفلاني أو الرئيس الفلاني لمعرفته بعلاقتهم وارتباطاتهم! وبعد أن جلسوا جميعاً التفت إليهم مرحباً بالقول "أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان". وصارت هذه الجملة علامة دامغة وفارقة بتاريخ الصحافة ورؤساء الجمهورية الذي تعاقبوا على الكرسي الأول وكان هو رابعهم.
كان يكتب شارل حلو في جريدة "لسان الحال" إضافة إلى "لوريان لوجور" وامتلك أسلوباً مشوقاً وله مداخلات عديدة من بينها مقال كتبه بتاريخ 17 فبراير 1967 في "لسان الحال" يوم كان رئيسا للجمهورية، وقد استوقفني ذاك المقال لما له من قيمة ثقافية وتاريخية بحق آل الصباح الكرام وبحق الكويت. الرئيس شارل حلو زار الكويت بصفته رئيسا، وارتبط بعلاقات جيدة مع الأمير الشيخ صباح السالم أثناء توليه الحكم، وهو من اتخذ قصراً له في "عاليه" يعرف بقصر الشيخ صباح، وكان يقضي معظم أشهر الصيف هناك لدرجة أنه عقد مرة اجتماعاً لمجلس الوزراء الكويتي في قصره نظراً لوجود معظم الوزراء في الأراضي اللبنانية. أنقل عنه وبتصرف مقالته بعنوان "الكويت في التاريخ" حيث يستهلها بالقول "بيننا وبين القُطر الشقيق الكويت علاقات وود نقي، وتعاطف صاف، لم يعكره في يوم من الأيام أي سبب من أسباب التباعد والتنافر أو الجفاء أو الإساءة، بل كنا ونظل في هذا أخوين مسالمين، يعرف كل منا حدوده عند أخيه، متمنياً كل طمأنينة وازدهار". كانت شهادته تعبيراً صادقاً عن محبته واحترامه لحكامها وشعبها، همه أن ينقل الحقيقة دون مجاملة، فمعرفته بتاريخ الحكام وثقافة الكويت وتاريخها تشفع له بالحيادية والموضوعية، ففي هذا البلد بعض ما يشبه ماضي لبنان، كما في حاضره. أوجز تاريخ نشأة هذا البلد الشقيق، وتحدث عنه بلغة الراوي وهو يحكي قصة أولئك القوم الذين استشعروا أنهم بحاجة إلى تنظيم التعايش بينهم برعاية حاكم يقودهم إلى الذود عن حياضهم ويحكم بالعدل، فوقع اختيارهم على الشيخ صباح من آل الصباح وهو كبيرهم بل أرشدهم قال الراوي: "جاء القوم" إلى الشيخ المختار يبلغونه قرارهم ووجدوه يصلي، ولما سمع خبرهم أجابهم قائلاً: "إما أن أكون لكبيركم أخاً، ولصغيركم أباً، وللمحتاج فيكم نصيراً، فوالله ما كنت إلا هكذا كما عرفتموني وتعرفونني، وإما أن أصير حاكماً عليكم فما هذا من طبعي، دعوني وشأني واذهبوا إلى فلان (وأشار إلى فاضل آخر من آل الصباح) واعرضوا حاجتكم عليه، وقولوا له إني أضم رغبتي إلى رغبتكم فيلبي". وعجب الكويتيون كيف يرفض الشيخ صباح الإمارة، وهو أميرهم في الواقع، فأعادوا عليه الكرة وأعاد الرفض معتذراً، وما استطاعوا إقناعه فذهبوا إلى نسيبه "فلان" الذي أشار عليهم به، ورافقهم ابن للشيخ صباح مزكياً طلبهم. وأصغى "فلان" الفاضل إلى زائريه حتى قالوا له كل ما عندهم فقال لهم: "وهل أنتم جادون في طلبكم؟ كل الجد! سألهم: وهل تدركون ما عليكم من طاعة، في الحق، للذي تريدونه حاكماً فيكم؟ "أجابوا: "إن له علينا عهد الله، وكتاب الله"، وافتر ثغر "فلان" الفاضل ووقف يقول لزائريه: "إنكم والله لجادون، وإنكم لمستحقون، الحقوا بي إلى صاحبكم ولن نتركه حتى يقبل، فصباح، وحده فينا، أهل لهذا". ووصلوا إلى الشيخ صباح وقص عليه "فلان" ما كان، وأقسم الجميع أنهم لن يخرجوا من بيته هذه المرة إلا وهو حاكمهم، على كتاب الله، وبسْملَ الشيخ صباح وقال: "توكلت وتوكلنا على الله العلي العظيم، وما أنا إلا عبده"، قال الراوي: وأخذ الحاكم الجديد العهد من قومه، وفتحت صفحة جديدة في حياة الشاطئ الذي كان إلى عقدين سابقين بضعة أكواخ للصيادين. تلك القصة كان يرويها الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح أمام زائريه من أدباء لبنان أثناء زيارتهم إليه في قصره في "شتورة" وفي الكويت، نقلها الرئيس شارل حلو، وختمها بالقول إنه كان يعقب– أي الأمير- عليها بجملة واحدة "أجل... إن من يخاف الله يصل". مناسبة المقالة أوضحها الرئيس شارل حلو في آخر سطرين جاء فيها: "وفق الله الكويت ولبنان والعرب أجمعين، وجعل من هذه الزيارة الأخوية سبباً جديداً في توحيد القلوب"... ولم يذكر اسم الزائر الذي عناه وإن كان أغلب الظن المرحوم الأمير الشيخ صباح السالم الصباح.