في الرابع عشر من شهر أغسطس عام 1941 اجتمع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت سراً مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل على متن سفينة قبالة ساحل نيوفاونلاند، وبحث الرجلان في ذلك اللقاء قضايا تتعلق باستراتيجية الحرب ووضعا رؤيتهما المشتركة حول عالم ما بعد الحرب، وذلك في بيان مشترك عرف في وقت لاحق باسم "ميثاق الأطلسي". وقد حدد ذلك الميثاق المبادئ المشتركة كما عزز التحالف الأطلسي وقاعدة نظام العالم الذي استمر أكثر من سبعين عاماً.

ولكن ذلك التحالف هبط اليوم الى مستويات متدنية، وقد هدد الرئيس الأميركي ترامب بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأشار الى أوروبا باسم "العدو"، كما أوضح بعض المسؤولين الأوروبيين في مقابلات معنا أن الولايات المتحدة تراجعت عن موقفها الذي أعلنته في عام 1941.

Ad

وعلى الرغم من أن تراجع واشنطن عن التزاماتها في عهود إدارات سابقة فإن ترامب طرح تهديداً مكشوفاً من مستوى مختلف كلياً للتحالف والشراكة بين روزفلت وتشرشل، وتمكن الرئيس الأميركي الحالي– على سبيل المثال– من استعداء قادة أوروبا وعزز عدم الثقة وطرح إمكانية الشك في قيمة العلاقة المشتركة كلها.

ولكن الشراكة عبر الأطلسي ليست خارج نطاق الإحياء والاستعادة، وقد بدأ قادة الولايات المتحدة وأوروبا النظر الى ما بعد عهد ترامب والتركيز على إمكانات جديدة للتحالف، وفي خطابها عن حال الاتحاد أخيراً شددت رئيسة اللجنة الأوروبية أورسولا فون دير لاين على أن أوروبا سوف "تقدر دائماً التحالف العابر للأطلسي وتأمل وجود أجندة جديدة له".

تجديد التحالف

وفي حقيقة الأمر، تستمر السياسة الأميركية والأوروبية الناجحة في الاعتماد على التعاون الأطلسي الفعال، وهذا التحالف في حاجة فقط الى تجديد وإعلان هدف مشترك وقيم ديمقراطية مع إقامة مؤسسات جديدة مكرسة للعمل المشترك بصورة واضحة.

ستكون الولايات المتحدة وأوروبا في حاجة الى بعضهما، كما أن العالم في حاجة على غرب نشط وفعال يعزز ويدعم النظام العالمي، وعلى الرغم من مجادلة بعض العلماء في أن مركز القوى السياسية والاقتصادية قد تغير فإن توازن الموارد المادية لا يزال في الغرب مع قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على كسب حوالي نصف دخل العالم والمشاركة في قرابة نصف انفاقه الحربي.

وتعتبر دول صناعية أخرى مثل أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية دولاً مكملة لمواجهة صعود الصين وكوريا الشمالية، ويظل التحالف العابر للأطلسي الركيزة الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها لأي نظام ليبرالي قادر على حماية المصالح العالمية.

وجهة نظر بايدن

ويقول مرشح الرئاسة الأميركية جو بايدن إن أوروبا هي "الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه" بالنسبة الى الولايات المتحدة، ومن ذلك المنطلق– وبدلاً من التفكير في التخلي عن التحالف الأطلسي– يتعين علينا التفكير بطريقة مبتكرة في مستقبل ذلك التحالف، وهذا يتطلب التفكير في إعادة إحياء وتنشيط الشراكة عبر اتفاقية جديدة عابرة للأطلسي وقيام مجلس جديد مجهز ليس لمعالجة أزمة اليوم فقط، بل لأزمات الغد أيضاً.

المعروف أنه خلال فترة الحرب الباردة وبعدها مباشرة بدت الشراكة العابرة للأطلسي وكأنها في ذروة نجاحها، وقام قادة الولايات المتحدة وأوروبا بتنسيق تصرفاتهم المشتركة عن طريق حلف شمال الأطلسي (الناتو) لكن تلك المنظمة تراجعت بشدة بعد بداية القرن وبدت الشراكة نفسها ضحية نجاحها بعد تعرضها لإهمال من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، وخلال العقدين الماضيين كان حلف شمال الأطلسي وسيلة التدخل في أفغانستان في عام 2001 وفي ليبيا في عام 2011 ولكن ليس لأي عملية أميركية رئيسة للسياسة الخارجية.

وقد تعرضت العلاقات العابرة للأطلسي الى تعقيدات وضغوط خلال عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ولكن الرئيس باراك أوباما حرص على تعزيز التحالف كما ساعد في جعل الأعباء والقيادة في التحالف موضع تشاطر متكافئ، وإضافة الى ذلك فقد اعترف البيت الأبيض في عهد أوباما بأهمية التحالف وشهدت إنجازات أوباما توقيع اتفاق إيران النووي واتفاقية باريس حول المناخ.

الازدراء بخطوات ترامب

شهدت خطوات الرئيس الأميركي ترامب ردة فعل أوروبية اتسمت بالازدراء وعدم الخوف، وقد حرص ترامب على إعلان العداء الواضح واعتبار حلف شمال الأطلسي منظمة "عتيقة"، وكان تشارلز كوبتشان وهو مدير سابق للشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي قد أبلغنا أن اللحظة الحالية تعتبر "وجودية" بالنسبة الى التحالف العابر للأطلسي، مشيراً الى أن ذلك يرجع الى حد كبير الى الرئيس ترامب.

ووصف ديفيد سوليفان وهو السفير السابق للاتحاد الأوروبي الى الولايات المتحدة السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس ترامب بالمتعثرة والمتقلبة، كما اشتكى من أن ترامب يعامل الحلفاء "على شكل أعداء والأعداء المحتملين على شكل حلفاء"، إضافة الى انسحابه من الالتزامات المشتركة كما في حال اتفاق إيران النووي واستخفافه بطريقة معالجة الاتحاد الأوروبي لانتشار وباء كورونا.

ونتيجة لعداء الرئيس ترامب ينظر بعض القادة الأوروبيين الى الولايات المتحدة على شكل قوة عظمى مثل الصين أو روسيا، يتعين على أوروبا إقامة توازن مصالح معها، فألمانيا، على سبيل المثال، كان موقفها يتسم بدعم كبير للتحالف العابر للأطلسي منذ عدة عقود لكن وزير خارجيتها هيكو ماس صرح في بيان في صحيفة ألمانية في عام 2018 بأن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً يمكن الاعتماد عليه كما دعا الى وضع استراتيجية أوروبية جديدة تتمحور حول الاستقلال الذاتي.

تباعد حلفاء الأطلسي

ولهذه الأسباب يبدو أن ثمة تباعداً قد حدث بين الولايات المتحدة وأوروبا، ويتمنى الكثير من صناع السياسة في القارتين إعادة إحياء العلاقة العابرة للأطلسي، فقد سبق لمساعد وزير الخارجية الأميركي جون نيغروبونتي أن أخبرنا بأن "من المهم جداً أن تركز الادارة الجديدة على أوروبا"، ولكن ولفغانغ ايشنغر وهو سفير ألماني سابق الى الولايات المتحدة لاحظ أن هذه "العلاقة ستتطلب المزيد من العناية والمشاركة وبقدر يفوق ما كانت الحال عليه في الفترات الماضية".

جدير بالذكر أن مثل تلك الجهود قد تتطلب إعادة التفكير في كيفية عمل التحالف، ثم إن المخاوف التي تشغل الولايات المتحدة اليوم، بما في ذلك صعود الصين، وعدوان روسيا وتغير المناخ، والفضاء السيبراني والتجارة والتقنية والصحة العامة، لا تصلح للمعالجة تحت مظلة حلف شمال الأطلسي كما أن القمم الأميركية مع الاتحاد الأوروبي لم تعالجها بالشكل المطلوب.

وعندما يجتمع قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يكتفون بالظهور في موقف ينطوي على وعد بالعمل معاً فقط ولا شيء حقاً غير ذلك، وعلى العكس من ذلك طرحت اجتماعات مجموعة العشرين المحورية بالنسبة الى آسيا وعوداً تم تنفيذها إزاء أمور مهمة في ميدان الاستيراد.

ضرورة التعاون الأوروبي

وبما أن واشنطن لم تتمكن من حل مشاكل سياستها الخارجية البارزة عبر التعاون الأوروبي وحده فإنها لن تتمكن على الأرجح من حلها في غيابه، وبالمثل تعول أوروبا على الدعم الأميركي وضمانات الولايات المتحدة الأمنية، وكانت مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طالبا أوروبا بتطوير استراتيجية تصرف ذاتي ولكن أوروبا لن تتمكن من ردع روسيا أو التصدي للإرهاب بمفردها في المستقبل المنظور، ولذلك فإن حلف شمال الأطلسي سيظل يمثل أهمية بالنسبة الى أمن القارة، كما أن من غير المحتمل أن تتمكن أوروبا من ضمان الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من دون تنسيق وثيق مع الولايات المتحدة، ولهذه الأسباب يتشاطر قادة أوروبا مشاعر الإجماع الواسع حول بقاء الولايات المتحدة شريكاً مكملاً ماداموا لن يضطروا الى التعامل مع الرئيس ترامب الذي يصعب التكهن بمواقفه وتصرفاته.

إنجازات التحالف

طوال أكثر من 70 عاماً ومنذ بداية ميثاق الأطلسي كان التحالف العابر للأطلسي المحرك المركزي للنظام الدولي، وقد دعم التجارة الحرة العالمية والتنمية الاقتصادية وحقوق الإنسان، كما استفاد النظام الليبرالي بدوره من الغرب وبدرجة كبيرة تماماً: لم تعد أوروبا ممزقة بسبب الحروب وكان ذلك هو ما حققته الصين أيضاً من ازدهار في تلك الفترة.

وتختلف الصورة اليوم مع وجود الرئيس ترامب في البيت الأبيض وتأكيد الصين إرادتها وتدخل روسيا في شؤون دول أخرى وغزوها لبلدان على حدودها، واللافت أن وباء كورونا اجتاح العالم، ولكن إدارة ترامب رفضت التعاون مع أوروبا على صعيد دولي- وهو ما دعا اليه المرشح الديمقراطي جو بايدن– ويمكننا القول باختصار إن تردي التحالف العابر للأطلسي جعل الولايات المتحدة أكثر ضعفاً والعالم أكثر خطراً.

ولذلك كان يتعين إعادة تنشيط التحالف ولكن المطالب الحديثة تقتضي وجود بنية جديدة تتطلب من القادة الغربيين وضع نسخة القرن الحادي والعشرين منه ربما تدعى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية العابرة للأطلسي، وتجدر الإشارة الى أن ميثاق الأطلسي وضع رؤية أفضت الى قيام مؤسسات ضخمة مثل هيئة الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وبالمثل غدت الولايات المتحدة وأوروبا اليوم في حاجة الى تحديث رؤيتهما وإقامة مؤسسات جديدة لتلبية متطلبات الوقت الراهن.

ومن بين تلك المؤسسات قد يكون المجلس العابر للأطلسي الذي يمكنه الإشراف على القمم التي تعقد بين الولايات المتحدة وأوروبا، ومن ثم المساعدة في استعادة التعاون وتعزيز العلاقات المشتركة ورفعها الى مستوياتها السابقة المتميزة.

*ديفيد ماكين وبارت ام سيويشسكي