في 20 سبتمبر، أفادت بعض التقارير أنّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حذّر الحكومة العراقية من أنّ استمرار هجمات الميليشيات غير الخاضعة للرقابة قد يدفع الولايات المتحدة إلى إغلاق سفارتها، وشن ضربات قويّة على قادة الميليشيات المدعومة من إيران، ومنذ ذلك الحين، سارع المسؤولون العراقيون وحتى بعض رموز الميليشيات إلى استرضاء واشنطن، حيث نأت جماعات مسلحة مختلفة بنفسها علناً عن الهجمات على المنشآت الدبلوماسية، ولكن في الوقت نفسه، أذهل هذا التحذير الحكومة العراقية المحاصرة التي كانت قد وجهت بعض الضربات القوية ضد وكلاء إيران في الأسابيع الأخيرة، من بينها اعتقال مموّل الميليشيا المشتبه فيه بهاء عبد الحسين في 17 سبتمبر، الذي يسيطر على خدمة دفع إلكتروني بقيمة مليارات الدولارات.ويسلّط هذا الحدث الضوء على أثر التآكل الذي يمكن أن تحدثه حتى هجمات التحرّش غير الفتّاكة للميليشيات على العلاقة الثنائية، وهي قضية سبق للكاتب أن قدّم عنها تحليلات وتحديثات في يوليو ومارس وفبراير. وقبل الأحداث الأخيرة الموضحة في القائمة أدناه، كانت العلاقات تتحسن بشكل ملحوظ، حيث زار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي واشنطن في أغسطس، ووافقت إدارة ترامب على البدء بخفض عدد القوات الأميركية من 5.200 عسكري إلى مستوى مستدام يبلغ حوالي 3.000 عنصر.
ولنزع فتيل أي توترات قد تنشأ من تحذير بومبيو الصارم، (تقضي) الخطوة التالية الموافقة على اتخاذ إجراءات عملية لطمأنة واشنطن بأن الحكومة العراقية تقوم بتوفير أكبر قدر ممكن من الحماية التي تستطيع حشدها واقعيّاً في هذا الوقت، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس بإمكان الجيش الأميركي إيقاف مثل هذه الهجمات تماماً عندما كان لديه 165.000 جندي في الميدان.
تدوين الهجمات الأخيرة للميليشيات
في الآونة الأخيرة توسّع عدد العمليات ونطاقها ضد الأهداف الأميركية وتلك التابعة لقوات التحالف، وضد الأهداف العراقية:• القوافل اللوجستية. تُعوّل السفارة الأميركية والقوات العسكرية التابعة للتحالف على استيراد العديد من قطع المعدات والمواد الاستهلاكية، بعضها مخصص للإنفاق على قوات الأمن العراقية، وزادت الهجمات على قوافل الشاحنات العراقية التي تنقل هذا العتاد من 14 في الربع الأوّل من عام 2020 إلى 27 في الربع الثاني و25 في الربع الثالث، وتحسّنت نوعية هذه الهجمات أيضاً، حيث شملت استخدام مشغلات الأشعة تحت الحمراء السلبية من أجل استهداف أكثر دقة، وفي الأيام الأخيرة، استخدام العبوات الناسفة الخارقة الموصولة في سلسلة تعاقبية.• تفاصيل الأمن الأجنبي. في 26 أغسطس، ألحقت قنبلة مزروعة على جانب الطريق أضراراً بمركبة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة، في منطقة عمليات تابعة لميليشيا مدعومة من إيران في شرق الموصل، مما أدّى إلى إصابة أحد الركاب بجروح. وفي 15 سبتمبر، انفجرت قنبلة أخرى على جانب الطريق بالقرب من عربة مصفحة تابعة للسفارة البريطانية في بغداد، ولكنها لم تسفر عن وقوع إصابات، وجاءت هذه الهجمات بعد مرور ما يقرب من عام على القيام بآخر تفجيرات من هذا القبيل، والتي كانت سلسلة من هجمات الميليشيات على قوافل شركات النفط في البصرة في عام 2019.• الصواريخ والطائرات بدون طيار. عانت الأهداف الأميركية من 27 هجوماً صاروخياً وهجمات بطائرات بدون طيار في الربع الثالث من العام الحالي، وهو عددٌ فاق ما سجّله الربع الثاني (11 هجوماً) والربع الأوّل (19 هجوماً). ولم تتسبب الهجمات في هذا الربع بسقوط ضحايا أميركيين، وقد وقع آخر قتلى في صفوف الأميركيين في 11 مارس، ومع ذلك كانت الضربات الأخيرة أكثر دقة، حيث استهدفت الهبوط داخل أراضي السفارة الأميركية، وفي 15 سبتمبر، دمّر النظام المضاد للصواريخ وقذائف المدفعية وقذائف الهاون الخاص بالسفارة الأميركية وابلاً من القاذفات التي كان يُتوقع أن تضرب المجمّع، أما بالنسبة إلى الطائرات المسيّرة، فقد تم العثور على إحداها على سطح بالقرب من السفارة في 22 يوليو، وكانت على ما يبدو مجهّزة للهجوم بقنبلة تعادل قذيفة هاون متوسطة (81-82 ملم). وفي 2 سبتمبر، استُخدمت تركيبة مشابهة لمهاجمة شركة "جي فور أس" (G4S) الأمنية في مطار بغداد، عبر ضربة دقيقة للغاية ولكن الهجوم لم يسفر عن وقوع إصابات. واتهمت بعض الجماعات المسلحة هذه الشركة الأميركية البريطانية بتقديم معلومات استخبارية حددت موقع الجنرال الإيراني قاسم سليماني وزعيم الميليشيات أبو مهدي المهندس، اللذين قتلا في غارة جوية أميركية بالقرب من المطار في 3 يناير.خيارات الرد الأميركي
يرسم الاستعراض أعلاه صورةً عن التهديد الناشط للغاية الذي تطرحه الميليشيات المدعومة من إيران والذي يتطور بطرق مثيرة للقلق، ولا تريد الولايات المتحدة أن تمر بفترة أخرى مثل تلك التي شهدتها في ديسمبر ويناير، عندما كانت سفارتها محاصرة، وكان لا بد من نشر عمليات انتشار جديدة كبيرة في المنطقة، وكان خطر نشوب صراع أوسع مع الميليشيات وإيران حقيقياً تماماً. وتريد إدارة ترامب بشكل مفهوم كسر الزخم الحالي، ومنذ المرة الأخيرة التي حدثت فيها مثل هذه الزيادة في الهجمات، كانت النتائج مقتل أميركي في ديسمبر، وشن غارات جوية أميركية، وقيام عصابات بشن هجمات على السفارة، واتخاذ القرار الحازم بل المحفوف بالمخاطر باستهداف سليماني والمهندس، واقتراح مجلس النواب العراقي الداعي إلى إخراج القوات الأميركية. وربما كان تحذير بومبيو مدفوعاً أيضاً بمعلومات سرية.ومهما كانت دوافع التهديد الأميركي بإغلاق السفارة، فإنه يمثل خياراً سياسيّاً مثيراً للجدل للغاية، على الرغم من فائدته الفورية في إثارة انتباه العراق بشأن قضايا الميليشيات. إن إغلاق السفارة هو بالذات النتيجة التي تحلم كل ميليشيا مدعومة من إيران بتحقيقها، وسيكون ذلك انتصاراً دعائياً ذا أبعاد أسطورية لطهران ووكلائها، مما يقوّض كل التقدم المحرز في العراق منذ مقتل سليماني والمهندس. كما سيمثل أيضاً انسحاباً كاملاً من العراق حتى أكثر من الانسحاب الذي قامت به إدارة أوباما في عام 2011، مما ساعد في تمهيد الطريق لعودة ظهور تنظيم «القاعدة» تحت اسم تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبعد ذلك سيطرة الميليشيات على مساحات واسعة من الدولة العراقية. ولن يؤدي ذلك إلى انتهاء العمليات الدبلوماسية والعسكرية الأميركية كافة في العراق فحسب، بل إلى توقّف جميع عمليات التحالف الأخرى أيضاً نظراً لاعتمادها على الوجود الأميركي، ومن المرجح أن تقوم العديد من القوى الأجنبية بخطوات مشابهة لرحيل واشنطن الكامل باستثناء إيران وروسيا والصين، ولن تخدم هذه النتيجة المصالح الأميركية بأي سيناريو.لذلك يجب على واشنطن أن تتجنب اللجوء إلى مثل هذا الإجراء المتطرف في المستقبل، وأن تعمل بدلاً من ذلك مع حكومة الكاظمي على أنواع أخرى من خيارات الرد المشدد، وعلى وجه الخصوص، عندما تشير تحذيرات التهديد التي توفّرها الولايات المتحدة إلى تنفيذ هجمات وشيكة، بإمكان القوات العراقية إغلاق أجزاء من المنطقة الدولية مؤقتاً وتعزيز الحماية هناك من أجل حماية السفارة الأميركية بشكل أفضل. ويمكن إجراء ترتيبات مماثلة في المطار وعلى طريق المطار الرئيسي في ظل ظروف معينة، وعلى الرغم من أن وقف إطلاق المدفعية بشكلٍ كاملٍ ليس أمراً واقعيّاً في أي وقت قريب، فقد تم بناء السفارة للصمود أمام مثل هذه الهجمات وهي محمية بالنظام الفعال المضاد للصواريخ وقذائف المدفعية وقذائف الهاون، الذي يسمح للحكومة العراقية بتشغيله فوق العاصمة رغم الضجة الهائلة التي يُحدثها والقذائف الطائشة االتي يُطلقها في بعض الأحيان.بالإضافة إلى ذلك، إذا كان لدى المسؤولين الأميركيين معلومات استخباراتية محددة حول أي تهديد جديد تطرحه إحدى الميليشيات- على سبيل المثال، إدخال أنظمة صواريخ دقيقة متقدمة- فعليهم مشاركة هذه البيانات بشرط أن ينفّذ العراق بسرعة عملية ضدّ هذا التهديد. ولا يزال رئيس الوزراء الكاظمي هو الرئيس الفخري لـ"جهاز المخابرات الوطني العراقي" ذي القدرات العالية، وأن الدول الشريكة تثق به باستمرار وكذلك بدائرة المقرّبين منه (معظمهم من أفراد جهاز المخابرات الوطني)، فيما يتعلق بالمعلومات الحساسة.وإذا احتاجت الحكومة الأميركية إلى رؤية علامات واضحة تشير إلى مقاومة العراق للميليشيات، فيجب أن يكون تَحرّك بغداد هادفاً بمعنى أوسع نطاقاً من مجرّد استرضاء واشنطن. فبدلاً من حث المسؤولين العراقيين على "الاندفاع نحو الفشل" ذو الطموح المفرط (على سبيل المثال، محاولة التغلب العسكري على ميليشيا رئيسية)، يتمثّل النهج الأذكى في مساعدتهم على استعادة المنطقة الدولية. وستكون إزالة الميليشيات بشكل تدريجي من هذه القطعة العقارية الرئيسة رمزية جدّاً على المستوى الوطني، والأهم من ذلك، [تساعد على] حماية المنشآت العراقية والأميركية ومنشآت التحالف الأكثر حساسية. أما التخلص التدريجي من آلاف رجال الميليشيات والأسلحة الثقيلة من المنطقة فقد يتّسم بمجابهة كبيرة، لكنه على الأقل يستحق المخاطرة - على عكس اعتقال عدد قليل من قادة الميليشيات، الذي سيكون له تأثير محدود. وبالفعل، يقوم الكاظمي بإجراء العديد من التغييرات الإيجابية على الترتيبات الأمنية في المنطقة بمساعدة الولايات المتحدة، لذا فقد حان الوقت لبذل جهود "الانتقال من حيٍّ إلى آخر" لإزالة المقاتلين والأسلحة. يجب على واشنطن حشد الدعم الصريح لمثل هذه الخطوة، ليس بين الجهات الفاعلة الدولية التي لديها سفارات في المنطقة فقط، بل أيضاً بين الكتل السياسية الشيعية والعلمانية والكردية والسنية المعتدلة في العراق.وخلال انتظار تنفيذ هذه الإجراءات وغيرها، فإن السفارة قادرة تماماً على حماية نفسها، كما فعلت خلال المواجهة في ديسمبر الماضي. بالإضافة إلى ذلك، تم تقليص الوجود الأميركي وتعزيزه منذ ذلك الحين ليصبح يتركّز حاليّاً في ستة مواقع بدلاً من أربعة عشر، وفي كل موقع دفاعات ناشطة ضد القذائف والصواريخ والطائرات بدون طيار، ويمنح هذا الاستثمار الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات الأفراد الأميركيين الشجعان القدرة على الصمود أمام نيران المضايقة عندما لا يمكن تجنّبها، وعلى الرغم من أن مظلة الحماية لا تمتد لقوافل الإمداد، إلّا أن وظائف النقل هذه يتم تنفيذها من قبل عراقيين يتمتعون بالقدر نفسه من الشجاعة لا أميركيين، ومن شأن تأمين المنطقة الدولية والبدء بالحملة لإخراج الميليشيات أن يمنح السفارة الأميركية أسبابا أكثر قوة للوقوف على أسس وطيدة لأنها تساعد بغداد في الصمود أمام التهديدات الإيرانية.*مايكل نايتس