«ماكرون» والماكِرون
الفرق بين الغرب والعرب أكثر من نقطة، والفرق بين "ماكرون" الفرنسي والماكِرين من أهل السياسة في لبنان أكبر من كسرة تحت الحرف، بل هي كسرة لخاطر شعب بأسره وكسر لا ينجبر لحاضره ومستقبله. فكما تبرز النقطة فوق حروف الغرب، وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النقاط فوق الحروف بمؤتمره الصحافي الذي عقده يوم الأحد الفائت على أثر اعتذار الرئيس المكلف "مصطفى أديب" عن تشكيل الحكومة اللبنانية، مما يعني تباعاً تعثر المبادرة الفرنسية لإنقاذ ما تبقى من الكيان اللبناني دولة وشعباً وأمناً واقتصاداً. لقد كان الرئيس الفرنسي واضحاً فيما قاله، مستاء مما عايشه، قاطعاً بوصف مكر الطبقة السياسية اللبنانية بالـ"خيانة الجماعية" للوعود التي قطعوها له شخصياً وللشعب اللبناني الذي تعلق بآخر قشة تنقذه من الغرق في بحر ارتكابات من حكمه بالحرب تارة والفساد طوراً، وبالهرطقة أطواراً والمماحكة دائماً.
"الخيانة الجماعية" هي الترجمة الدولية للشعار المحلي "كلن يعني كلن"، فكما طفح الكيل بأهل الكرامة والشرف من اللبنانيين، ضاقت الدبلوماسية الأوروبية ذرعاً بفظاعات "الدولة العميقة" التي تتحكم في مفاصل الحكم والإدارة وتحتكر السلطة والمال في جمهورية "الموز" اللبنانية التي طالما حولوها الى جمهورية "الموت" في أكثر من مناسبة، وكان آخرها انفجار العصر في مرفأ بيروت. ورغم اليقين أن لا سياسة دولية من غير مصالح خفية، فإن خريطة الطريق التي أملاها الرئيس الفرنسي على ممثلي الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية في "قصر الصنوبر" تعكس صورة حقيقية عن طريقة التفكير التي تتبناها الدول الأوروبية وعن أسلوب عمل سياسييها، وهنا كان الصدام وكانت الصدمة؛ صدام بين واقعية الدبلوماسية الفرنسية وفظاظة السياسة اللبنانية، وصدمة الوضوح الدولي من النكران المحلي، وها قد ظهر للعيان جلياً أن من لم يخجل يوماً من خنوعه للسوط العسكري لن تخدش حياءه بعض القساوة في الخطاب أو النعت. ملخص المشهد الراهن، أن الفرنسيين الطامعين والطامحين لتأدية دور أكبر في موطئ قدمهم التاريخي يعلقون الأمل على ذرة وطنية لدى أهل الحل والربط في لبنان، وهؤلاء الذين لا يعنيهم من المساعي الفرنسية إلا خشيتهم من العقوبات المالية يماطلون سراً وعلانية بانتظار اكتمال ملامح الصفقة الإيرانية-الأميركية التي ستحدد للعقد القادم ملامح الشرق الأوسط ومعالم الساحة اللبنانية. لا شك في جدية الإرادة الفرنسية باتجاه إحداث خرق في جدار الأزمة اللبنانية، ولكن الأمر الأكثر يقيناً هو أن استئصال جذور الدولة العميقة، إذا سمحت التوازنات الدولية والإقليمية بذلك، لن يكون ممكناً ولا سهلاً، فقطع الجذور قد يطيح بالشجرة وسيسقط كل أوراقها وسيفتت زهورها وسيؤدي الى هجرة كل عصافير الفن والأدب والحضارة لغصونها. وللأسف فقد أضحى اللبنانيون أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الركون في قاع "جهنم" الوضع الحالي، وإما امتطاء مبادرة أو صفقة تعقد على حسابهم.