في عام 1977 طلبت مني وزارة الخارجية الالتحاق بالوفد الرسمي لدولة الكويت لحضور الدورة الثانية والثلاثين للأمم المتحدة، فحزمت حقيبتي وسافرت إلى لندن لقضاء بضعة أيام هناك، ومن ثم مواصلة الرحلة إلى نيويورك لعدم وجود خطوط طيران كويتية مباشرة!

وفي صباح اليوم التالي ذهبت للسفارة الكويتية في لندن لترتيب موعد السفر للوجهة الأخرى واستطلاع أخبار وصول بقية أعضاء الوفد تباعا.

Ad

وكان سفير الكويت في لندن في ذلك الوقت المرحوم الشيخ سعود الناصر الصباح، فأخبرني بأن الوزير الشيخ صباح الأحمد قد وصل لندن ويقيم بفندق (دورشستر)، وهذا الفندق بالمناسبة كلاسيكي على طريقة التراث القديم، ودعاني للذهاب معه للسلام على الوزير.

وهناك توجهنا إلى غرفة مدير مكتب الشيخ صباح، وهو الأخ السفير عبدالعزيز الخضر- أطال الله عمره- ورحب بنا كثيراً ودعانا للدخول إلى غرفة الشيخ صباح الملاصقة لغرفته، وعندما دخلنا وجدناه يتناول وجبة الإفطار فسلمنا عليه واستأذناه بالحال للمغادرة، إلا أنهُ أصر على جلوسنا معه لمشاركته طعام الإفطار، وكانت الجلسة أشبه ما تكون بالعائلية الحميمة ما بين الأب وأبنائه، ودارت بيننا أحاديث ودية.

كما تمت دعوتنا للغداء في بيت السفير، حيث اشترط الشيخ صباح (أموّش لحم) دون أي أصناف أخرى! وفي هذه الأجواء الرائعة لم يضع مديرو المكاتب- كما نجدهم في بعض الدول الأخرى- الحواجز والبروتوكولات ممن يُسمح له بالدخول وممن يُمنع، فشكراً لأخينا "أبوهاني" السفير عبدالعزيز الخضر، ولو كان أحد آخر غيره لسمح لسفيرنا في لندن فقط بالدخول دون أحد غيره!!

وهناك في نيويورك عندما اكتمل وصول الوفد تم توزيعه على لجان الأمم المتحدة العديدة، مع الأخذ بالاعتبار نقطة أساسية بحيث لا يكون مقعد الكويت شاغراً في أي لجنة، فيما لو حدث لأي عضو في أي لجنة ظرف طارئ ويجب أن يحل عضو آخر ليشغل المقعد، ولا يترك خالياً!!

وقد كُلفت بحضور إحدى جلسات الجمعية العامة لظرف طارئ نتيجة غياب أحد الزملاء عن الجلسة، وقد شُرح لي طريقة ما يجب عمله عند التصويت على القرارات؛ لأن عملي الأساسي كان في لجنة أخرى، وفي أثناء اجتماع الجمعية العامة، شعرت بأن أحد الزملاء جاء وجلس في المقعد الذي خلفي وكنا دائما معتادين على هذا الأمر، فكل الزملاء الذين ليس لديهم انعقاد لاجتماعات لجانهم يستطيعون الذهاب للجمعية العامة أو اللجان الأخرى للاستماع إلى المناقشات والمداولات بوجود أعضاء اللجان الأساسيين.

وفي هذه الأثناء نظرت خلفي وإذ الجالس معالي الوزير الشيخ صباح الأحمد! فشعرت بالإحراج الشديد، فقمت من مقعدي ودعوته للجلوس في المقعد الأمامي، فضغط على كتفي بقوة للجلوس لمواصلة الاجتماع... وقال مبتسماً: حضرت مستمعاً فقط!

وكان كذلك يقوم بالتجوال في شوارع نيويورك وفي أروقة الأمم المتحدة وأدوارها المتعددة ومعرضها ومتحفها الدائم لوحده، وشاهدتهُ وتحدثت إليه مراراً من دون أي حاشية من المرافقين، في حين نشاهد وزراء الدول العربية في مشهد آخر مختلف وحولهم عدد كبير من الحاشية والمرافقين!!

وكنا في الأيام الأخرى بالأمم المتحدة وخصوصاً في يومي العطلة السبت والأحد نجتمع- نحن الكويتيين- أعضاء الوفد ومن خارجه الأصدقاء الذين يعملون في المؤسسات الاستثمارية الكويتية في نيويورك، وذلك للعشاء، وتتكرر الزيارات المتبادلة بيننا، ولا أذكر مرة أن سمو الشيخ صباح تخلف عن حضور دعوات الزملاء في نيويورك، والجميع يشعرون وكأنهم في أجواء عائلية وأسرة واحدة مجتمعة دون أي رسميات، ويدور بين الجميع الأحاديث الممتعة والتعليقات الجميلة!

وتلك الذكريات من أيام ذلك الزمن الجميل، قبل عقود من الزمان، وآخر دعوانا له بالرحمة والمغفره وحُسن الثواب!