رياض الريس كم أنت باقٍ فينا
أن تنفجر بيروت وتتشوه هي وناسها لأمر محزن حد الوجع ثم تفجع هي بعد أقل من شهرين على الانفجار برحيل رياض نجيب الريس الذي عشقها، فذلك أمر يغرس الوجع بجروح لم تندمل بعد، فنذرف وتذرف دمعا كسخونة اللقاء برياض، أستاذ رياض كما يناديه الكثيرون رغم قربهم منه، فهو بقي أستاذنا حتى آخر نفس لنا، نحن الصحافيين الوراقين كما يسمينا، والروائيين والشعراء والكتاب والمبدعين على تنوعاتهم، هو أستاذنا وسيبقى كذلك.عند وداعه كانت الصور الأكثر حضورا ربما للكثيرين منا هي الجلسات التي جمعتنا به في مدن مختلفة من المنامة إلى لندن إلى بيروت وحتى في دمشق التي لم أجتمع أنا وهو فيها يوماً إلا أنني كنت أرسل له صور الشارع الذي يحمل اسم والده كلما مررت من هناك "شارع نجيب الريس منطقة المهاجرين حي أبورمانة"، وكأني أقول أنت هنا يا رياض أيضا في دمشق، كما أنت باق هنا وهناك وعند الكثيرين والكثيرات.نتواصل نحن الأصدقاء والصديقات، وكثيرٌ منا تتلمذ في مدرسة رياض الريس للصحافة وفن الكتابة وصياغة العنوان الأنيق والمشوق وإخراج الكتب واختيار الورق، رياض الوراق يقف عند كل تفصيلة، يدقق بكل معلومة ويعشق كل شيء أنيق وراقٍ، لذلك بقيت كتب دار الريس الأكثر حضورا في معارض الكتب مضمونا وشكلا، كيف لا وهو الذي يدقق في التفاصيل، فعند زيارته يدقق في شكلنا، لبسنا، تسريحة شعرنا وعدم إهمالنا بحجة الانشغالات الحياتية.. رجل يعشق الحياة والفرح والجمال هو رياض نجيب الريس.
كانت ثمانينيات البحرين تعرف رياض كثيراً، فهو القادم في حضور لا يشبهه أحد فيه، وهو الذي كان الجميع ينتظر أن يمنحهم بعضا من وقته أو أن يجالسهم، كان لقائي الأول معه حيث أجريت مقابلة مطولة عن مسيرته الصحافية، وكيف غطى الكثير من الأحداث والحروب الساخنة، وكان العربي الوحيد، بعدها وصلتني منه رسالة قصيرة فيها كثير من الإطراء لكيفية صياغة المقابلة.. طرت فرحا أنا الصحافية المبتدئة التي منحت شرف عمل لقاء مع رياض نجيب الريس.. أدركت بعدها أنه لم يكن إلا ليشجع أي صحافي أو كاتب أو شاعر يعرفه أو يتعرف عليه، هو الذي كانت الجلسات معه حلقات من التعمق في فن الكتابة وصياغة الخبر والجري وراء الحدث مهما كان بعيدا وصعبا. لم تنقطع اللقاءات وسحر رياض يبقى عالقاً في غرف المعيشة وغرف الطعام التي جمعتنا وكثيرة هي، في حضوره يسود الإصغاء لحضور شخصية مبهرة تحمل مخزوناً من الأحداث في ذاكرتها، وتاريخا حافلا ولقاءات ومعرفة واسعة لا شبيه لها، والأهم أن كل ذاك يأتي ضمن أحاديث تمر بالنكتة لحظة والفكاهة والسخرية والمرح أخرى، هو عاشق الفرح رغم صعوبة الأيام الأخيرة في حياته. هو المحرض على فعل الحب دوما، فيبدأ أسئلته للفتيات عن طموحهن وحياتهن ولا يفوته أن يتساءل عن أحوال القلب، العشق كما يقول الذي هو ملح الحياة وشهدها، ولا معنى لحياة دونه، تأتي أسئلته مبطنة أحيانا وصريحة كثيراً عن الوله، عن رفقة القلوب والدعوة لأن نغطس في أعماق قلوبنا دون كثرة الأسئلة النمطية أو التفكير الذي يتعب أكثر مما يغزل الفرح في الأزمنة الصعبة. انعكس كل ذلك في كثير من الكتب التي نشرها، والتي خافت أو رفضت دور نشر عدة منها ربما خوفا من الرقيب الخارجي أو حتى الرقيب الذي أسكنوه في دواخلنا، أما رياض الإنسان والوراق فهو كاره للرقابة بكل أصنافها، ورافض لها ومناضل ضدها، ربما دفع ثمن ذلك كثيراً ولكن ألا تستحق الحرية أن نضحي من أجلها؟تتداعى الذكريات بيننا ونحن نرثيه من بعيد، فقد منعنا "كورونا" اللعين أن نقوم بطقس وداع خاص لـرياض نجيب الريس، ولكن أحاديثه وقصصه الكثيرة وذكريات جلساتنا وصورنا هي الأكثر حضورا في كل مكالمة بيننا.. مساحة بسيطة تفصل دموع الحزن على وداع رياض والضحك لكلمة أو تعليق أو حتى نقد لاذع منه لنا.. في حضوره لا مكان للحزن بل كثير من الفرح ذاك هو إرث رياض مع كم من الكتب، والمطبوعات، والذكريات، والصور والحضن الدافئ في الحضور والغياب، وسؤاله الأول عند اللقاء "كيف البحرين" ثم يعرج للسؤال عمن عرفهم وأحبهم فرداً فرداً. كلنا سنبقى مدينين له، كلنا سنبقيه داخلنا وعند كل تفصيلة في حياتنا، سنردد كم كان يحب هذا أو ذاك المكان، أو كلمة أو شخصا أو أكلة أو ذكرى أو جلسة يتحلق حوله كل أصدقائه وأحبته، فهنا تكمن فرحته.. يستمع ويسأل ويناكف ويعارض ويصغي، رياض يتقن الإصغاء حتى لنا من كنا نرى أنفسنا صغاراً جداً أمامه.. رياض نجيب الريس كم أنت حاضر فينا.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية