هل تنقذ الولايات المتحدة نفسها من البلوتوقراطية؟

نشر في 05-10-2020
آخر تحديث 05-10-2020 | 00:00
لا يستطيع أي طبيب أن يعالج مريضاً يرفض أخذ الأدوية اللازمة، ولا شك في أن الولايات المتحدة ستضطر لتلقي أدوية مُرّة كي تتخلص من البلوتوقراطية، حتى أنها مضطرة للانقلاب على قرار "مواطنون متحدون" الصادر عن المحكمة العليا.
 ذي دبلومات على مر التاريخ البشري، لطالما حذر الحكماء من مخاطر البلوتوقراطية، أو حكم الأثرياء، لكن رغم هذه التحذيرات كلها، توشك الولايات المتحدة على التحول من ديمقراطية إلى بلوتوقراطية لأسباب واضحة، فقد ابتعدت عن مبدأ "حكومة الشعب من الشعب ومن أجل الشعب" وانتقلت إلى "حُكم 1% من الأثرياء" كما يقول الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز الفائز بجائزة نوبل.

لكن كيف استولت الأقلية الثرية على الحياة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة؟ جواب هذا السؤال معقد، فقد بدأ هذا الانزلاق حين قال دونالد رايغان إن "الحكومة ليست الحل، بل المشكلة". في معظم البلدان، لا سيما أوروبا، تؤدي الحكومات دوراً محورياً في التصدي لقوى السوق وتأمين فرص متكافئة لجميع المواطنين، فمن خلال إضعاف الحكومة، تخلّت الولايات المتحدة إذاً عن مبدأ تكافؤ الفرص. نتيجةً لذلك، تكشف الدراسات أن احتمال تخرّج أي فتى في الصف الثامن وفي عمر الرابعة عشرة يتراجع إذا كان ينتمي إلى أصحاب الدخل المنخفض، حتى لو كانت نتائجه في الرياضيات ممتازة، وفي المقابل تزيد فرص تخرّج أي شخص ينتمي إلى عائلة من أصحاب أعلى المداخيل حتى لو كانت نتائجه سيئة، وهذا الوضع يشكّل نقيضاً لحُكم الجدارة.

ترسّخت قوة المال لتحديد النتائج السياسية في الولايات المتحدة بفضل قرار "مواطنون متحدون" الصادر عن المحكمة العليا في ديسمبر 2010، فقد أعطى هذا القرار أصحاب الثروات الضوء الأخضر لإنفاق مبالغ غير محدودة على الحملات الدعائية وأدوات سياسية أخرى لضمان انتخاب مرشحين مستعدين لمراعاة مصالحهم. يقول الصحافي مارتن وولف إن "قرار "مواطنون متحدون" الشائب الذي صدر عن المحكمة العليا في 2010 اعتبر الشركات أشخاصاً بحد ذاتهم والمال شكلاً من التواصل، وقد شكّل هذا التوجه خطوة أساسية على طريق الانتقال إلى البلوتوقراطية.

عاش سقراط في أثينا منذ 2400 سنة وأطلق تحذيراً مفاده أن المدن التي تسمح بأن يحكمها الأثرياء ستتجه لا محالة نحو الانهيار، وهذا ما حصل تحديداً في الولايات المتحدة، حيث يقيس مؤشر التطور الاجتماعي مستوى الرفاهية في المجتمعات بناءً على أبعاد متعددة، لكن يكشف أحدث نموذج منه أن الولايات المتحدة أصبحت المجتمع المتطور الوحيد الذي يشهد تدهوراً في رفاهية الإنسان في مجالات كثيرة. تراجع هذا البلد من المرتبة 19 في 2011 إلى المرتبة 28 في 2020.

ويربط الصحافي والمعلّق السياسي الأميركي نيكولاس كريستوف هذا التدهور بظاهرة "الموت بسبب اليأس"، فيقول بحزنٍ شديد إن ربع الأولاد الذين كانوا يركبون معه في حافلة المدرسة ماتوا الآن بسبب المخدرات أو الكحول أو الانتحار، كذلك وثّق الخبيران الاقتصاديان في جامعة "برينستون"، آن كيس وأنغوس ديتون، انتشار "موجة من اليأس" بين الأميركيين في الطبقة العاملة.

يواجه المجتمع الأميركي اليوم سؤالاً وجودياً بالغ الأهمية: هل يستطيع أن ينقذ نفسه من مخالب البلوتوقراطية بعد سيطرتها عليه؟ يوحي الواقع القاسي للأسف بأن إجابة هذا السؤال المؤلم ستكون سلبية، ولمعالجة المصاعب عموماً، يجب أن تعترف الأطراف المعنية أولاً بوجود مشكلة تحتاج إلى حل، لكن في الوقت الراهن، لا تَصِف أي صحيفة مرموقة الولايات المتحدة بالنظام البلوتوقراطي، مع أن هذا البلد يشمل أكثر وسائل الإعلام حرية واستقلالية في العالم.

وحتى أفضل جامعات العالم فيه لا تجرؤ على القيام بهذا التصنيف، إذ يفضّل الأميركيون دوماً تسمية الأشياء بأسمائها، لكن إذا أقدم أي سياسي أميركي بارز على وضع النظام الأميركي في خانة البلوتوقراطية، فستكون مقاربته أقرب إلى الانتحار السياسي.

باختصار، لا يستطيع أي طبيب أن يعالج مريضاً يرفض أخذ الأدوية اللازمة، ولا شك في أن الولايات المتحدة ستضطر لتلقي أدوية مُرّة كي تتخلص من البلوتوقراطية، حتى أنها مضطرة للانقلاب على قرار "مواطنون متحدون" الصادر عن المحكمة العليا، وعلى غرار الأنظمة الديمقراطية الأخرى في أوروبا، يجب أن يفرض الأميركيون حدوداً صارمة على استعمال الأموال في الانتخابات، ويعكسوا مسار الثورة الفكرية التي أطلقها ريغان وثاتشر، ويتوصلوا إلى إجماع قوي مفاده أن "الحكومة ليست المشكلة بل الحل"، ولجعل الحكومة حلاً لجميع المشاكل لا بد من زيادة رواتب وامتيازات كبار المسؤولين الحكوميين، وأن يطمح أهم المتخرجين من جامعتَي "هارفارد" و"يال" للانضمام إلى الحكومة بدل أن ينضم إليها مسؤولون من "غولدمان ساكس" وبنك "تشيس"، ولكن للأسف لن يتحقق شيء من هذه الأفكار وستبقى الولايات المتحدة نظاماً بلوتوقراطياً على ما يبدو!

* «كيشور ماهبوباني»

على الأميركيين أن يفرضوا حدوداً صارمة على استعمال الأموال في الانتخابات ويعكسوا مسار الثورة الفكرية التي أطلقها ريغان وثاتشر

قوة المال ترسّخت لتحديد النتائج السياسية في الولايات المتحدة بفضل قرار «مواطنون متحدون» الصادر عن المحكمة العليا في ديسمبر 2010
back to top