الأزمة في العالم الأنجلو ساكسوني وعواقبها على أوروبا

نشر في 05-10-2020
آخر تحديث 05-10-2020 | 00:00
العلاقات الحميمة في سنوات ما بعد الحرب الباردة مباشرة أصبحت شيئا من الماضي، لذلك يجب إعادة تشكيل العلاقة بين أميركا وأوروبا، ويتعين على كلا الطرفين التكيف، وعلى أوروبا أن تفعل المزيد لحماية مصالحها الخاصة، ومن الأفضل للولايات المتحدة أن تفهم أن مصالح أوروبا قد تختلف عن مصالحها.
 بروجيكت سنديكيت بين الصراع الصيني الأميركي المُتصاعد وأزمة وباء كوفيد 19 المُستمرة، يشهد العالم بلا شك تحولا جوهريا وتاريخيا. إن الهياكل التي تبدو غير قابلة للتغيير والتي تم إنشاؤها على مدى عقود عديدة تُظهر فجأة درجة عالية من المرونة، أو ببساطة تختفي تماما.

في الماضي البعيد، كان من شأن أحداث اليوم غير المسبوقة أن تُحذر الناس من علامات نهاية العالم القادمة، بالإضافة إلى الوباء والتوترات الجيوسياسية، يواجه العالم أيضا أزمة التغيرات المناخية، وتسريع عملية بلقنة الاقتصاد العالمي، والاضطرابات التكنولوجية بعيدة المدى الناجمة عن الرقمنة والذكاء الاصطناعي.

لقد ولت الأيام التي تمتع فيها الغرب- بقيادة الولايات المتحدة، بدعم من حلفائها الأوروبيين وغيرهم- بهيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية دون منازع، وبعد ثلاثين عاما من نهاية الحرب الباردة- عندما تم توحيد ألمانيا وظهرت الولايات المتحدة باعتبارها القوة العُظمى الوحيدة في العالم- لم تعد قضية القيادة الغربية ذات مصداقية. واليوم، مع وجود الصين الاستبدادية وتصاعد القومية بشكل متزايد في المُقدمة، تعمل منطقة شرق آسيا جاهدة لتحل محله.

ومع ذلك، لم تكن المنافسة المُتصاعدة مع الصين السبب وراء إضعاف الغرب، وبدلا من ذلك، كان تراجع الغرب مدفوعا بالكامل تقريبا بالتطورات الداخلية على جانبي المحيط الأطلسي، خصوصا داخل العالم الأنجلو سكسوني، وإن لم يكن ذلك بشكل حصري. شكّل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عام 2016 انفصالا حاسما في الالتزام عبر الأطلسي بالقيم الليبرالية والنظام العالمي القائم على القواعد، مما يُبشر بإحياء هوس ضيق الأفق بشأن السيادة الوطنية التي ليس لها مستقبل.

كان الغرب عبر الأطلسي، وهو مفهوم تجسد في تأسيس حلف شمال الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة الانتصار العسكري للولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مسارح منطقة المحيط الهادئ وأوروبا. لقد كان قادة هذين البلدين هم من أنشأوا نظام ما بعد الحرب ومؤسساته الرئيسة، من الأمم المتحدة والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (التي كانت مقدمة لمنظمة التجارة العالمية) إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعلى هذا النحو، كان "النظام العالمي الليبرالي"- بل "الغرب" عموما- مبادرة أنجلو سكسونية بالكامل، وهي مبادرة أكدها الانتصار في الحرب الباردة.

ولكن في العقود التي تلت ذلك، استنفد العالم الأنجلوسكسوني قوته، وبدأت العديد من شعوبه يتوقون للعودة إلى العصر الذهبي الإمبراطوري الأسطوري، وأضحى احتمال استعادة عظمة الماضي شعارا سياسيا ناجحا في كلا البلدين، فبين عقيدة ترامب "أميركا أولا" وجهود رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون "لاستعادة السيطرة"، فإن القاسم المشترك هو الرغبة في إعادة إحياء اللحظات المثالية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

عمليا، تُمثل هذه الشعارات انتكاسة عكسية، حيث يقوم مؤسسو نظام دولي يعلو على الديمقراطية وسيادة القانون والأمن الجماعي والقيم العالمية اليوم بتفكيك هذا النظام من الداخل، وبالتالي، تقويض سلطتهم. لقد خلق هذا التدمير الذاتي الأنجلوسكسوني فراغا أدى إلى فوضى عارمة لا نظاما جديدا.

بطبيعة الحال، فإن الأوروبيين- بدءا من الألمان- ليسوا في وضع يسمح لهم بالجلوس والاسترخاء أو توجيه أصابع الاتهام إلى الأنجلوسكسون، ومن خلال الاستفادة من القضايا الأمنية وعدم إيلاء أي اهتمام لارتفاع الفوائض التجارية المُستمرة، فإنهم أيضا يتحملون المسؤولية عن عودة ظهور القومية اليوم.

إذا أراد الغرب الاستمرار- كفكرة وككتلة سياسية- فسيتعين عليه تغيير شيء ما، ستكون كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أضعف بمفردهما من كونهما جبهة موحدة، ولكن ليس أمام الأوروبيين الآن خيارا آخر سوى تحويل الاتحاد الأوروبي إلى قوة فاعلة حقيقية في حد ذاته. لقد انفتح صدع عميق بين الأوروبيين القاريين- الذين لا يسعهم إلا التمسك بالبناء الغربي التقليدي- والأنجلوسكسون القوميون على نحو متزايد.

بعد كل شيء، لا يتعلق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في المقام الأول بقضايا التجارة العملية؛ فهو يمثل بدلا من ذلك فاصلا أساسيا بين نظامي القيمة، وهذا يدفعنا لطرح هذا السؤال الحاسم: ماذا سيحدث إذا أعيد انتخاب ترامب في نوفمبر القادم؟ من غير المرجح أن يصمد الغرب عبر الأطلسي خلال السنوات الأربع المقبلة في ظل حكم ترامب، ومن المحتمل أن يواجه حلف شمال الأطلسي أزمة حقيقية، حتى لو زاد الأوروبيون إنفاقهم الدفاعي استجابة لمطالب الولايات المتحدة. بالنسبة لترامب وأتباعه، فإن المال ليس هو المشكلة الحقيقة، فهمهم الأساسي يتعلق بالسيادة الأميركية والولاء الأوروبي.

في المقابل، إذا تم انتخاب نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، فإن نبرة العلاقات عبر الأطلسية ستصبح بالتأكيد أكثر ودية، لكن لا توجد طريقة للعودة إلى حقبة ما قبل ترامب، حتى في ظل إدارة بايدن، لن ينسى الأوروبيون سريعا انعدام الثقة العميق الذي انتشر خلال السنوات الأربع الماضية.

بغض النظر عمن سيفوز في نوفمبر، يتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل مع أوروبا التي تُعلق أهمية كبيرة على سيادتها أكثر مما كانت عليه في الماضي خصوصا في القضايا التكنولوجية، وهذا يعني أن العلاقات الحميمة في سنوات ما بعد الحرب الباردة مباشرة أصبحت شيئا من الماضي، لذلك يجب إعادة تشكيل العلاقة بين أميركا وأوروبا، ويتعين على كلا الطرفين التكيف، ويجب على أوروبا أن تفعل المزيد لحماية مصالحها الخاصة، ومن الأفضل للولايات المتحدة أن تفهم أن مصالح أوروبا قد تختلف عن مصالحها.

* وزير خارجية ألمانيا ونائب المستشار من عام 1998 إلى عام 2005، وكان زعيما لحزب الخضر الألماني

لما يقرب من 20 عاما.

«يوشكا فيشر»

back to top