بقدر ما أثار تقرير موقع "المونيتور" عن اتجاه الكويت لخفض قيمة الدينار بنحو 25 في المئة لغطاً فنّده بنك الكويت المركزي بتأكيد "التزامه بالمحافظة على استقرار سعر صرف الدينار بما يضمن قوته الشرائية، مضيفاً أنه سيواصل التزامه بالسياسات الرامية إلى تقوية العملة، والمحافظة على الاستقرار المالي والنقدي في البلاد"، بقدر ما أتاح ذلك فرصة للنقاش حول مستقبل الدينار في السنوات القادمة، خصوصا في غياب إجراءات الإصلاح الاقتصادي، التي شدد "المركزي" نفسه على مخاطرها في المستقبل.وبشكل عام، فإن هناك اختلافات جوهرية فيما يتعلّق بقيمة أي عملة ومدى انطباق ذلك على العملة الكويتية، فتخفيض قيمة أي عملة أو رفعها مقابل العملات الدولية كالدولار والين واليورو هو قرار سيادي للسلطات النقدية، وهو النظام الذي يعتمده البنك المركزي بشكل يومي في تسعير قيمة الدينار، أما انخفاض قيمة العملة أو ارتفاعها فيكون عندما يخضع سعر صرف العملة للعرض والطلب في أسواق العملات الدولية وتقلّباتها، بعيدا عن سلطة الدولة، وهذا ما ينطبق في العادة على تداولات وأسعار العملات المرجعية للاقتصادات الكبرى في العالم.
اختياري وقسري
وبمزيد من التفصيل، فإن الدول في الغالب تخفّض قيمة عملتها بناء على نموذجين؛ أولهما اختياري لتخفيف عجز الميزان التجاري وخفض تكلفة التصدير وتحفيز الطلب على المنتجات المحلية، وبالتالي تحريك عجلة النمو الاقتصادي بما يوفّره هذا الخيار من تنشيط لسوق العمل وتداول السلع في السوق ودعم الصادرات وأكثر دول العالم استخداما واستفادة من هذا الخيار هي الصين التي يمنحها خفض قيمة عملتها "اليوان" أفضلية لمنتجاتها في الأسواق، مقارنة بالدول الأخرى.أما الثاني فقسري يأتي لمعالجة تحديات اقتصادية كبيرة تخفض فيها قيمة العملة، مثلاً تضخم إنفاق مصروفاتها بشكل حاد، بما يقابله من إيرادات محدودة، أو لعجز الدولة عن تغطية ما يقابل عملتها من ذهب وعملات أجنبية، وبالتالي تضطر إلى خفض قيمة العملة لمواجهة وضع اقتصادي صعب على المدى المتوسط، وقد حدث هذا في العديد من الدول كالأرجنتين وفنزويلا ومصر وإيران وزيمبابوي وغيرها كثير.ولعل النموذج الثاني (القسري) هو الأقرب لوضع دولة مثل الكويت تعتمد في إيراداتها على مصدر دخل متقلّب الأسعار وتتنامى مصروفاتها بجموح لا يراعي أي سياسات تحوطية.طمأنينة واحتراز
هذه القراءة لتوضيح الفرق بين التخفيض والانخفاض تعطي قدرا لا بأس به من الطمأنينة بالنسبة لسعر صرف الدينار، والمحافظة على قيمته الشرائية على المدى القصير ، لا سيما مع قوة احتياطيات وأصول البنك المركزي، وإمكانية تقديم مزيد من الدعم للدينار في مواجهة الضغوط التي تواجه السياسة النقدية والمالية، لكن على المدى المتوسط فلا بأس من الحديث بشكل أكثر احترازية عن مخاطر الاقتصاد وتحديات المالية العامة، فميزانية الكويت تضاعفت خلال 20 عاماً في مصروفاتها بأكثر من 7 مرات؛ من 3.18 مليارات دينار في عام 2000 إلى 22.5 مليارا في 2020، دون إنفاق ذي قيمة مالية أو استثمارية تدعم الإيرادات غير النفطية أو منافع اقتصادية تعالج مثلاً اختلال سوق العمل، صاحبها نفاد سيولة الاحتياطي العام للدولة، وغياب بدائل تمويل الميزانية سوى الاستدانة للإنفاق على أوجه الصرف العقيمة نفسها في الاقتصاد، واستمرار الرهان على أسعار النفط لسداد الديون وتكلفتها، رغم ضبابية أوضاع سوق الطاقة العالمي وقتامتها.الدائرة الخبيثة
مشكلة خفض قيمة الدينار أنه على الأرجح حلّ نظري أكثر من كونه عمليا لمعالجة الأثر السلبي لأزمات الاقتصاد، وأبرزها تنامي المصروفات العامة، فمثلا خفض قيمة الدينار بنسبة 25 في المئة يعني أن الإيرادات العامة، وتحديدا النفطية، سترتفع بنسبة 25 في المئة، وبالتالي تتمكن الدولة من تغطية عجوزاتها السنوية أو جزء كبير منها، من خلال تسعير جديد يضمن للإيرادات، المتأتية بالدولار أو غيره من العملات الصعبة، أن تشكّل عدداً أكبر من المبالغ بالدينار الكويتي بسعره الجديد، غير أن هذه الفرضية تحتاج - في أسهل سيناريوهات معالجتها - إلى ثبات في الإنفاق العام من ناحية لضمان كفاءة خطوة خفض قيمة الدينار، وهو ما تعجز عنه الإدارة العامة في الكويت دائما عندما تضع أي سقف لمصروفاتها، الى تحديد آليات لضبط التضخم، خصوصا على السلع المستوردة، لاسيما الغذائية والدوائية منها، وصولا، في أصعب السيناريوهات، إلى كيفية التعامل مع انخفاض القوة الشرائية للدينار، وربما تعويض المواطنين عمّا فقدوه من قيمة فعلية عبر ضخ جديد لأموال في بنود المرتبات أو الدعوم بالميزانية، فندخل في تلك الدائرة الخبيثة أو المسمومة التي تؤدي الى مزيد من الإنفاق لتعويض التراجع في قيمة الدينار الشرائية، فنصل الى حالة من عدم جدوى قرار خفض الدينار، ونحصل على عجز أكبر في الميزانية وتضخم أعلى في أسعار السلع والخدمات دون أي عائد للاقتصاد والمالية العامة.قوة وفرصة
ربما يكون الحديث وفق المعطيات الحالية عن خفض لقيمة الدينار أمرا سابقا لأوانه، لا سيما مع قوة الأصول السيادية والاحتياطات المالية للدولة ومتانتها، غير أن هذا الوضع القوي لا يمكن النظر اليه كمبرر للاستهانة، بل كفرصة للعمل أو البدء بخطوات من شأنها تحقيق قدر ما من الإصلاحات الاقتصادية والمالية مادامت الظروف الحالية تسمح باتخاذ قرارات أقل إيلاما من تلك التي تتخذ خلال الفترات الصعبة.