هجرتُ الطلولَ وأصحابَهاووجهتُ وجهي محرابَها
وأوقفـــــــتُ قلـــــبي لها قبــلـــةًوكعبةَ من لم يجدْ بابَها
خالد سعود الزيد
في كل عام تنتابني الحيرة فيما أكتبُ عنكَ، فكل ما أكتبه عنكَ هو اختزالٌ لحضورك الذي لا يُحَدُّ فيَّ، كنت في صحبتك مؤدبًا، ومعلمًا، وأبا صادق اللهجة، تنهرني محبة، وتبسم لي رحمة، تغمرني بسؤالك عني، وانتظارك لمجيئي، وأنا آتيك وشوقي إليك يتقدمني.أذكر الآن عندما كنتُ أعود إلى البلاد في إجازاتي الدراسية، كانت رحلتي مسائية، أذهب إلى بيت والديَّ، أجتمع بالأسرة ومن ثم استأذنهم لآتيك بعدها، أجدك تجلس في فناء البيت تدخن سيجارتك، وتشرب شايك منتظرًا، أجِدُ المحبةَ والودَّ في المكان، في ابتسامتك وسلامك وحديثك، وسؤالك عن الأهل والأصدقاء والأحبة في القاهرة، ويطول بنا الحديث حتى أذان الفجر، ثم استأذنك بالانصراف ولم يزل الشوق بيننا مشدودًا برباط من الحنين؛ والد بولده، معلّم بمريده، وما ألبث أن أعود إلى البيت لأنام، حتى أستيقظ وبعدها آتيك ثانية ونجلس جلساتنا اليومية، وتَنْهَلّ فتوحاتكَ العلوية الرافعية فهوما تتجدد، ومعاني تتولد منها إشارات وعبارات تخلق عوالم ضوئية ومفاهيم روحية تصبح زادًا لطريق موحش لولا هذه النفحات والسبحات والصلوات.غبت عنّا بسنّة الله في خلقه، وظلت روحك حاضرة بناموس الوجود.خُلِقَ النّاسُ للبَقَاءِ فضَلّتْأُمّةٌ يَحْسَبُونَهُمْ للنّفادِإنّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أعْما لٍ إلى دارِ شِقْوَةٍ أو رَشَادِما زلت تحرث أرض ذاتي، تزرع فيَّ معانٍ روحية، وعبارات وفتوحات... أجِدُنِي أتحدث حديثًا أسمع فيه صوتَكَ فيَّ، لسانَكَ يَتَحدثُ فيَّ، جمل وعبارات ولغة تفوق تعبيري، اقرأها بعد ذلك فأنكر أن أكون صاحبها، فيض من فيض، ونور من نور، ذلك هو الحبور الذي تلفّني به منذ عرفتك.فك الشفرة
جَدَّدْتَ فيَّ مفاهيم المناسك والشعائر، وفهم الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، لم تجعلني أسير الحرف الظاهر، وإنما دفعتني إلى فك الشفرة تلو الشفرة، وعدم التوقف عند ظاهر النص، فظاهر النص حق، وباطن النص حق أيضًا. "الظاهر مرآة الباطن" لا يمكن فصم العلاقة بينهما، والأخذ بأحدهما دون الآخر هو إخلال بالمعنى وإهدار للمقصود والمنشود.الآن، أصيخ السمعَ... أسمعُ صوتُك وأنتَ تلهج بالصلوات على محمد وآل محمد: "اللهم صل على الحبيب المحبوب شافي العلل ومفرج الكروب"، "اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين"، "الحمد لله الذي جعل لنا أبا نلجأ إليه".لا تتوقف ولا تهدأ عن الصلوات والذكر، سواء كنت وحدَكَ أو مع من تجالس، لا تلتفت لأحد حين تكون ذاكرا مسبحًا كأنك وحدك، لا تُرجئ ولا تؤجل الذكر والشكر والتسبيح، لأنها حالة تؤمن أنها تأتيك وهبا لا كسبا، تأتيك لا تذهب إليها.الصلاة صلة بين العبد والرب، تقام في كل وقت وحين، والصلاة المنسكية تدريب على تلك الصلة الدائمة القائمة. الزكاة تزكية للنفس البشرية من شوائبها وعوالقها التي تؤخر انطلاقها، وتكبح حركتها في التطور والترقي، فعندما تزكي النفسَ أنت تطهرها، خاصة وأنت راكع، فالركوع حالة إذعان وخشوع لمعاني الحق في الوجود، واستعانة بقوة حقِّية خفية تعين على التزكية.الصيام قيام في حضرة الحقِّ، وتوضؤ من شهوة المادة ودنسها، لن تدخل على الحقِّ بنفسِكَ الإنِّسيّة، وإنما تتخلص منها بالوضوء، بخلعها وترك شهواتها، والصيام ليس توقفا عن الشراب والطعام فحسب، بل هو تدريب على أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، وإنما يحيا بالروح التي تأخذ طاقتها من عالم المادة وتحولها إلى طاقة روحية تفيض منها على عوالمها الداخلية.الحج معان حقِّيّة وحياة بشرية كاملة، تبدأ من البيت طوافًا، ثم السعي في الحياة بين صفاء وري، ثم بالسقيا من ماء زمزم؛ ماء الحياة الأبدية وفيه معنى الارتواء، والصلاة عند مقام إبراهيم الذي وَفَّى لتستوعب معنى الوفاء والاستيفاء من الحياة الدنيا رغبة في الحياة الآخرة، "وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (سورة الأعلى - 17)، مرورًا بالوقوف في جبل عرفة، فمن حج عرَفَهُ أيّ من حاجَّهُ في وجوده، عرف نفسه في وجود الأعلى معنى وقيامًا وهديًا يتجدد ولا يتوقف. وما كان الازدلاف إلا مرحلة من مراحل الترقي من أجل المبيت في حضرة المنى؛ حضرة المنزلة بين المنزلتين، وبعدها ترجم الشيطان الذي فرغ معناه من معنى الأبوة، فصار إبليسا لا أبوة له، وبات لا يرى سوى نفسه.ثم العودة لطواف الوداع الذي فيه تودع شطرًا من حياتِكَ المادية، لتستقبل حياة روحية حقِّيّة تتجدد في كل عيد يحمل معنى الإعادة والترقي من مقام إلى مقام.هذه بعض معانيك في فهم الشعائر والمناسك، كنتَ تنكرُ من يقول: إن الصوفية أسقطوا التكاليف وعطلوا أداء المناسك والشعائر، وكنتَ تقول: هذا كلام غير صائب، إن الصوفية سقط عنهم عناء التكليف، لأنهم قاموا فيه قيام حال لا قيام مقال. "أرحنا بها يا بلال"، أي أن الأذان صار إيذانًا ببدء الراحة من عناء الحياة الأرضية، وفتح بوابة الرحمة على السماوات العليّة، واستقبال القبلة المحمدية، التي تبدأ بالتكبير الله أكبر... الله أكبر، فالله أكبر من كل ما جال في بالِكَ، وهي حرم الدخول في الصلة، ومفتاح العلوم الروحية والسعادة الأبدية.