عرفت الصديق العزيز الدكتور عباس يوسف الحداد منذ سبعة وثلاثين عاماً، وذلك في عام 1983. كنا يومها حديثي عهد بالكلية، هو في كلية الآداب بقسم اللغة العربية وآدابها، وأنا بكلية التربية تخصص المناهج وطرق تدريس اللغة العربية. وبحكم تخصصي كانت معظم مقرراتي في كلية الآداب. قبلها كانت معرفتي بأستاذي الزيد منذ عام 1980، وكنت أتردد عليه برابطة الأدباء بمنطقة العديلية كل يوم، لا سيما في الفترة الصباحية أو بعد صلاة العصر قبيل حضور معظم أعضاء الرابطة.

في تلك السنوات الثلاث كنت أقرأ كتب الأدب المتنوعة، لا سيما فيما يخص الأدب في الكويت، والذي وضع أسسه أستاذنا الزيد بمؤلفاته المتنوعة مثل: كتابه "من الأمثال العامية"، و"أدباء الكويت في قرنين"، و"خالد الفرج حياته وآثاره".

Ad

في الجامعة، جمعتني مع مجموعة من الطلبة المحبين للأدب فكرة استحداث صفحة أتاحها لنا تشجيعاً المرحوم الأستاذ عبدالعزيز المساعيد (1915 - 2001) رحمه الله، مؤسس دار الرأي العام. فكنا نكتب فيها بين الحين والحين أنا وعباس وسعدية مفرح وغيرنا ممن لا تحضرني أسماؤهم، وهي بالتأكيد عند الصديق عباس، لأن روح الموثق كانت تلازمه منذ تلك الفترة ولم يزل.

كتب عباس مقالة، وذكر فيها مرجعاً استنكرت أن يكون عنده، واعتقدت أنه أخذ ذلك من كتاب أدباء الكويت في قرنين دون أن يشير إليه، فرددت عليه في صفحة ملتقى الأقلام نفسها، وكان ردي عنيفاً. لكنه ــ حفظه الله ـــ أخذ الموضوع بأريحية، وأخبرني أنه يمتلك أعداداً كثيرة أصلية من مجلة البعثة، وأنه بالفعل رجع إلى المصدر الأصلي، وأطلعني على تلك الأعداد. اعتذرت منه، ونقلت ما جرى بيني وبين عباس إلى أستاذنا الزيد، فابتسم لحميتي وحرصي على الأمانة في النقل وإرجاع الأمور إلى أصحابها، وفي الوقت نفسه استحسن وجود طالب نجيب يحرص على الأدب الكويتي. قلت له إن "عباس" يود لقاءك؟ رحب رحمه الله وقال: تعاليا معاً في اليوم الفلاني. وقد كان، إذ تم الأمر في صيف 1985، ومنذ ذلك اليوم لم نفارق الرجل إلى أن رحل، رحمه الله، إلى دار القرار.

كان "بوسعود"، رحمه الله، صاحب همة منقطعة النظير عند قيامه بمشروع أدبي، وكان دائماً يردد على مسامعنا قولته المحببة: "يا ولدي، العلم يبيله (يحتاج) ثني ركب". وكنا نراقب الكيفية التي يستخلص فيها المعلومة من المصادر المتنوعة، وكيف يؤالف بينها ليجعل منها شيئاً مذكوراً. وكم كانت فرحتنا كبيرة عند صدور مؤلف من مؤلفاته، ويهدينا إياه مصحوباً بإهداء كريم منه.

كانت جلساتنا مع "بوسعود" تمتد ساعات طوال، وكان عباس من مساعديه الخلّص، لا سيما عندما أراد، رحمه الله، قبيل الغزو العراقي الغاشم أن يجهز لمعرض المخطوطات والكتب العربية والكويتية النادرة. فقد عكف الرجلان أياما ولياليَ يعدان للمعرض. وكان رحمه الله يجلس بالمكتبة ويشير على عباس بالكتاب الفلاني، فيتلقاه ويستخلص مادة معينة ثم يعيد الكتاب، ويطلب كتابا آخر ويأخذ منه مادة أخرى، حتى إنني كنت أتساءل عن ماهية علاقة الكتاب بالبحث المنظور، لكنها تجربة العلماء ممن يمتلكون ذاكرة استثنائية في استدعاء المعلومة من قراءاتهم السابقة. وقد كان للجهد الكبير الذي قدمه عباس في إعداد محتويات المعرض وكتابة التعليقات على كل مادة أن ربط ما بين الاسمين عند إصدار الكتاب الموسوم "المخطوطات والمطبوعات الكويتية النادرة في مكتبة خالد سعود الزيد" 1990، ولا ريب أنه وسام شرف لأي كاتب أن يجاور اسمه اسم خالد سعود الزيد، فما بالك ونحن لا نزال طلاب علم لم نبلغ الحلم بعد. بل إنه طلب من يحيى الربيعان، رحمه الله، وكان الموزع لفهرسي المعرض أن يمنح "عباس" مبلغاً مالياً مقدماً على المبيع من نسخ الكتاب، وهذا أمر غير معهود عند أصحاب المكتبات، لكن الزيد أراد أن يمنح "عباس" شيئاً من التشجيع وكأنه كان يعدّه لقادم نجهله.

واستمرت عناية بوسعود بمريده عباس حتى مع دراساته العليا، واختيار عباس للشعر الصوفي موضوعاً لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، وكيف ساعد بوسعود "عباس" على الكيفية في قراءة النص الصوفي الذي يمتاز بالتعقيد، ومنحه الشفرات الخاصة التي يمكن من خلالها حل مغاليق هذه النصوص.

وأحسب أن رسالتي الماجستير والدكتوراه اللتين قدمهما الصديق الدكتور عباس يوسف الحداد من المراجع المهمة في حقل الدراسات النقدية للشعر الصوفي؛ لما تتمتعان به من حس النقد، وجمال التذوق، مما تشربه عباس طوال تلك الصحبة المباركة مع أستاذنا الزيد، رحمة الله عليه.

وقبيل انتقال الزيد إلى الرفيق الأعلى، كتب رسالة "لمن يهمه الأمر" يخول فيها "عباس" بأن ينظر في كتبه، ويعيد طباعتها، ويشرف على نشر غير المطبوع منها، وذلك لثقته بجهده وإخلاصه فيما سيقوم به عباس تجاه أعماله.

لا أدري لم كتبت هذه المقدمة المطولة نسبيا، هل هو صدور كتاب الزيد "من الأمثال العامية"، في طبعته الثالثة عن دار الربيعان للنشر والتوزيع، والتي حرر الدكتور عباس هوامشها، وضبطها وقدم لها؟ لعل الأمر كذلك.

صنف بوسعود كتابه "من الأمثال العامية" وهو في أوائل العشرينيات من عمره، وطبع عام 1961 في مطبعة حكومة الكويت إبان استقلال الكويت. وهو في هذا الكتاب لم يشغل باله بوضع مصادره التي استخلص منها الأشعار أو الأمثال العربية ذات الصلة بالمثل العامي الكويتي، أو يخرج الآيات القرآنية والحديث الشريف، فهو رحمه الله كما ذكر في قصة الكتاب لم يكن قاصداً التأليف، بقدر ما كان همه أن يجمعها لإيمانه بقيمتها التراثية وأهميتها الفولكلورية.

هنا رأى الدكتور عباس ـــ عندما فاتحته الأستاذة فجر كريمة الأستاذ يحيى الربيعان رحمه الله، في أمر إعادة طباعة الكتاب- أن يكرم الكتاب وصاحبه. وذلك بأن يعتني بضبط النصوص، وإرجاع الأشعار إلى قائليها، والأمثال إلى مصادرها، وكان عملا شاقا يتطلب "ثنيا للركب"، وقد كان.

وعند الانتهاء من تحرير النصوص ووضع الهوامش، وجد عباس أن حجم الكتاب قد تضاعف، وهو مما يؤرق دار النشر بزيادة الصفحات، ومن ثم التكلفة المادية. لكن الأستاذة فجر الربيعان أولت الكتاب عناية خاصة، تكريماً للراحل الزيد، وتحية لخصوصية العلاقة بين والدها والأستاذ الزيد، رحمهما الله.

ولعل من أجمل ما في كتاب "من الأمثال العامية" بطبعته الثالثة هو تعريفنا بمصادر الزيد الثقافية في تلك المرحلة العمرية، إضافة الى ذائقته الشعرية، وطريقته المتميزة في شرح ما هو عامي بعربية فصيحة شائقة. نتعرف من مصادره على سبيل التمثيل لا الحصر على "مجمع الأمثال" للميداني، و"الحيوان" و"البيان والتبيين" للجاحظ، و"ثمار القلوب" للثعالبي، و"العقد الفريد" لابن عبدربه، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، و"حياة الحيوان الكبرى" للدميري، و"المستطرف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، وغيرها من أمهات الكتب التي ذكرها الدكتور عباس في هوامشه. يضاف إلى ذلك كتب الحديث المتنوعة، ودواوين عشرات الشعراء القدماء: كالنابغة الذبياني، وامرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والمتنبي وغيرهم.

تذكرت وأنا أعيد قراءة الكتاب بهوامشه ما كان يخبرنا رحمه الله عن الساعات التي كان يقضيها بالمكتبة العامة، يجلس فيها، وهو ينسخ من مصادرها ما يحتاجه من نصوص وأشعار. ولقد كنا نسمع منه تأثره بالجاحظ ولم نكن نعرف أين يكمن هذا التأثير، هل هو تأثره بلغة الجاحظ، أو بالكيفية التي كان يستقصي بها الجاحظ المعلومة، أو في وصفه للحدث، أو كل ذلك مجتمعا؟ إن من يقرأ كتب الزيد الأخرى يستطيع أن يرصد مثل هذا التأثر في الجوانب التي سبق ذكرها.

وبعد،، فهذه المقالة هي هدية مرفوعة إلى روح أستاذنا الزيد الذي يشهد الله أنه ما غاب عنا إلا جسدا، أما روحه وأفكاره ومحبته التي غمرتنا مازلنا نستشعرها وهي ممتدة بأسرته الكريمة إلى الآن. وهي أيضا تحية لتلميذ "بوسعود" النجيب أخي وصديقي العزيز الدكتور عباس يوسف الحداد، الذي كان ولايزال نعم التلميذ البار بأستاذه.