ارتفاع معدلات التقاضي أمام المحاكم يقتضي على المسؤولين في المحاكم النظر إلى أسبابه، وتحديداً في أنواع القضايا التي تتداول بشكل مضاعف وكبير، لتفسير تلك الزيادات، والعمل على إيجاد الآليات القانونية والإدارية المناسبة لمواجهتها، بدلاً من القبول بالواقع الحالي، الذي بات يضغط على الهيئات القضائية والإدارات بالمحاكم، في ظل تراجع أداء العديد من الأقسام المنوط بها تسيير عملية التقاضي!والواقع العملي يشهد على ارتفاع وتيرة القضايا الإدارية والعمالية والتجارية في المحاكم، رغم أن المشرِّع أوجب على المتقاضين في تلك القضايا على الأقل اتباع سلسلة من الإجراءات قبل رفع الدعاوى القضائية، كالتظلم في الدعاوى الإدارية، والشكاوى في الدعاوى العمالية، والإنذارات في المطالبات التجارية.
ومع ذلك، فإن أعداد تلك القضايا في تزايد، بدلاً من أن تنتهي ودياً بين أطرافها، ورغم اتصال طرفيها رسمياً بموضوع النزاع قبل عرضه أمام ساحات القضاء.ولو بذلت قطاعات المحاكم أو مجلس القضاء جهوداً في مطالبة مجلس الوزراء لإخطار الجهات الرسمية، كمجلس الخدمة المدنية والوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية في الدولة، لحسم الأنزعة التي يتظلم منها الموظفون داخل تلك الجهات، لانخفضت الأعداد التي تصل إلى قاعات المحاكم، والحال كذلك ببذل إدارات العمل التابعة لهيئة القوى العاملة في الضغط على أصحاب العمل والعمال في الوصول إلى تسويات ودية، بدلاً من الإحالات السريعة إلى المحاكم، ومن دون أي جهود تُذكر لحلها!هناك العديد من الدول أدركت جيداً خطورة ارتفاع حجم التقاضي أمام محاكمها، فنصَّت قوانينها على أن تُشكل لجان للفصل في تلك المنازعات، بعضوية ممثل من الجهات الحكومية، وآخر من إحدى الجهات الرسمية عن الوزارات والكيانات الرسمية في الدولة، كممثل عن ديوان الموظفين، وآخر عن النقابات العمالية، وأحد القانونيين من خارج الوزارة أو جهة العمل، وإذا ما فشلت مساعي تلك اللجان، يُنقل النزاع إلى القضاء، الذي بدوره ينظر المنازعة، بعد أن يُسدد رافعها رسماً جدياً يتناسب مع فكرة إشغال القضاء بهذا النزاع. وبعد ذلك يصدر القضاء حُكمه في الأمر، وغالبا ما يكون ذلك الحُكم قابلاً للاستئناف فقط، ومن دون عرضه أمام محكمة التمييز أو حتى النقض.وكلفة المثول أمام القضاء ليست بالأمر البسيط، حتى يكون خياراً سهلاً للناس، فالقضاء ليس قسماً أو إدارة يراجعها المواطن أو المقيم من أجل إنجاز معاملته التي رفضتها الجهة الحكومية أو الجهة التي كان يعمل بها، بل سُلطة تعمل على حسم القضايا التي تتعدَّى فكرة المعاملة أو الموضوع لتتطور إلى فكرة النزاع الذي يصعب حله إلا عبر منصة القضاء، بعدما فشلت جهود تلك الجهات في حلها، وهو الأمر الذي يتعيَّن على المسؤولين بمرفق القضاء والمحاكم الوقوف عليه.هناك العديد من الأدوات التي تمكن المشرِّع من جعل أمر الوصول إلى القضاء طريقاً جدياً يتناسب مع كلفة المثول أمامه، وسبق التعامل معه تشريعياً عند تنظيم الطعن المباشر أمام المحكمة الدستورية، فنص القانون على كفالة مرتفعة قدرها 5 آلاف دينار، واشترط توقيع ثلاثة محامين مقيدين أمام المحكمة الدستورية وعلى عرض الطعن أمام غرفة للمشورة قبل أن يكون مقبولاً لنظره من الناحية الموضوعية أمام المحكمة. وهنا لا أطالب بمضاعفة الرسوم بهذا القدر، بل بمراجعتها، وأن يسبق رفع الدعاوى تفعيل خطوات حسم النزاعات ودياً قبل عرضها على منصات القضاء.
مقالات
مرافعة: كلفة الوقوف أمام منصات القضاء!
13-10-2020