"يعود الاقتصاد العالمي من أعماق الأزمة، لكن الدول تواجه ما يمكن تسميته بالتعافي غير المؤكد"... هذا الملخص الذي أوجزته مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجييفا، للتعبير عن المستجدات التي طرأت على الآفاق المستقبلية في غضون ستة أشهر.

وفي حين أبدى صندوق النقد نظرة أكثر تفاؤلاً بشكل طفيف حيال أداء الاقتصاد العالمي هذا العام، مقارنة مع تقرير الآفاق الاقتصادية الصادر في يونيو الماضي، لكن مسار التعافي لمستويات ما قبل أزمة الوباء يظل عُرضة للنكسات.

Ad

ورفع صندوق النقد تقديراته لأداء الاقتصاد العالمي في عام 2020، إذ يتوقع أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي انكماشاً بنحو 4.4 في المئة، وهي تقديرات أفضل من التراجع المتوقع في يونيو عند 5.2 في المئة.

وعاد الاقتصاد العالمي من ذروة الانهيار في النصف الأول، نتيجة تخفيف عمليات الإغلاق ونشر سياسات داعمة بشكل غير مسبوق من جانب البنوك المركزية والحكومات في جميع أنحاء العالم.

وبنيت هذه التقديرات على فرضية أن تدابير التباعد الاجتماعي بسبب وباء كورونا سوف تستمر حتى عام 2021، وأن عملية انتقال عدوى الإصابة محلياً ستتراجع بحلول نهاية 2022.

وينسب الفضل في هذه المراجعة الأكثر تفاؤلاً حيال أداء الاقتصاد العالمي إلى نتائج أقل قتامة نسبياً خلال الربع الثاني، فضلاً عن بوادر تعافٍ أقوى في الربع الثالث.

وفي حين رفع الصندوق الدولي تقديراته لأداء الاقتصادات المتقدمة بنحو 2.3 في المئة، ليتوقع انكماشها 5.8 في المئة هذا العام، لكنه في المقابل خفضها للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية بنحو 0.2 في المئة، ليكون من المتوقع انكماش الناتج المحلي بنحو 3.3 في المئة.

ومن المرجح أن يعاني اقتصاد الولايات المتحدة انكماشاً بنحو 4.3 في المئة هذا العام، بعدما كان يتوقع التقرير الصادر في يونيو أن يشهد تراجعاً بنحو 8 في المئة.

كما تحسَّن الوضع بالنسبة لمنطقة اليورو، إذ بات من المتوقع أن تعاني اقتصادات المنطقة، مجتمعة، انكماشاً 8.3 في المئة في 2020، وهي تقديرات أقل من السابقة بنحو 1.9 في المئة.

بينما من المتوقع تراجع اقتصاد الهند بنحو 10.3 في المئة هذا العام، وهي تقديرات أسوأ بنحو 5.8 في المئة مقارنة مع تقرير يونيو، في حين أن التعافي السريع بالصين شكَّل مفاجأة صعودية، ليعدل صندوق النقد تقديرات النمو المحتملة في العام الحالي إلى 1.9 في المئة، بزيادة 0.9 في المئة عن التوقعات السابقة.

وعلى النقيض، توقع صندوق النقد تعافياً أبطأ للاقتصاد العالمي في العام المقبل، حيث يتوقع نمواً 5.2 في المئة، بدلاً من تقديرات يونيو، والتي كانت ترى توسعاً 5.4 في المئة.

ويقول الصندوق خلال تقريره: "تعافي الاقتصاد أمر غير مؤكد، فيما يستمر الوباء في الانتشار"، مشيراً إلى أن الاقتصادات في كل مكان تواجه مسارات صعبة للعودة إلى مستويات النشاط قبل الوباء.

ويتوقع أن تتوسع الاقتصادات المتقدمة بنحو 3.9 في المئة بالعام المقبل، وهي تقديرات أقل بنحو 0.9 في المئة من التوقعات السابقة، في حين تم رفع تقديرات النمو في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية بنحو 0.2 إلى 6 في المئة.

مخاطر صعودية وهبوطية

لا تزال الآفاق الاقتصادية محفوفة بقدر كبير من عدم اليقين، بالنظر إلى أن الإصابات الجديدة بالفيروس آخذة في الزيادة مجدداً، كما يُجرى إعادة فرض الإغلاق على المستويات المحلية.

وفي حال تفاقم الأمور وانحسار توقعات توافر العلاج واللقاح ضد الوباء، فمن شأن العواقب على النشاط الاقتصادي أن تكون وخيمة. ومن المرجح أن تزداد الأوضاع حدة، بفعل الاضطرابات الشديدة في الأسواق المالية.

وعلى الجانب الإيجابي، ربما تتحسَّن الأمور بشكل كبير، مقارنة بسيناريو التوقعات الأساسي في حالة اتساع نطاق توفير العلاج واللقاح للوباء سريعاً مع التحفيز الإضافي من السياسات.

تداعيات متوسطة الأمد

من المرجح أن تترك هذه الأزمة ندوباً تمتد على المدى المتوسط، بالنظر إلى أن تعافي سوق العمل سوف يستغرق وقتاً أطول، وأن عدم اليقين يعرقل عودة الاستثمارات، وغيرها من المشاكل المتمثلة في الميزانيات العمومية للشركات ورأس المال البشري.

وبعد التعافي المتوقع في العام المقبل، من المحتمل أن يتباطأ النمو العالمي بشكل تدريجي إلى نحو 3.5 في المئة على المدى المتوسط، إذ يتوقع ارتفاع الخسارة التراكمية في الناتج الاقتصادي مقارنة مع المسار المتوقع قبل الوباء من 11 تريليون دولار في عامي 2020 و2021 إلى 28 تريليونا من 2020 إلى 2025.

سياسات الدعم

ساهم الدعم المالي العالمي الهائل (قرابة 12 تريليون دولار)، إضافة إلى التخفيضات الكبيرة في معدلات الفائدة وعمليات ضخ السيولة الضخمة وشراء الأصول من جانب البنوك المركزية، في إنقاذ الأرواح وسبل العيش، كما حال دون وقوع كارثة مالية.

وينبغي أن تركز السياسات بقوة على الحد من الضرر الاقتصادي المستمر جراء هذه الأزمة، كمواصلة الحكومات توفير الدعم للدخل عبر التحويلات النقدية المستهدفة، ودعم الأجور وإعانات البطالة، فضلاً عن مساعدة للشركات لتفادي خطر الإفلاس.

ونصح صندوق النقد الحكومات بالاستمرار في السياسات التيسيرية بدرجة معينة، لمنع حدوث فجوة أوسع في توزيع الدخل، رغم المستويات المتزايدة للدين العام.

الديون غير المثيرة للقلق

من المتوقع أن يصل معدل الديون السيادية في الاقتصادات المتقدمة إلى 125 في المئة نسبة للناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2021، وهو ما يمثل زيادة حوالي 20 في المئة.

وخلال نفس الفترة، من المرجح أن ترتفع الديون السيادية نسبة للناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة بنحو 10 في المئة إلى حوالي 65 في المئة.

ومع ذلك، لا يشعر الصندوق الدولي بالقلق بشكل خاص بشأن الديون المتزايدة في الوقت الحالي، نظراً لانخفاض معدلات الفائدة، كما أن التعافي الاقتصادي في عام 2021 من المفترض أن يساعد في سداد بعض الديون الجديدة.

ورغم أن معدلات الفائدة المنخفضة من المتوقع أن تسيطر على مدفوعات خدمة الديون، لكنه عامل ضعيف في الغالب بالنسبة للاقتصادات المتقدمة التي لديها جزء كبير من السندات السيادية ذات العائد السالب، وفق التقرير.

التعافي وأسواق الأسهم

لعبت تدابير السياسة التيسيرية دوراً حيوياً في دعم المعنويات، ومنع تفاقم صدمة "كوفيد-19" عبر النظام المالي، بيد أن استمرار الأزمة واستغراق التعافي الاقتصادي وقتاً أطول من المتوقع، من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض أسواق الأسهم في الأشهر المقبلة، كما يحذر صندوق النقد.

وكانت أسواق الأسهم في الاقتصادات المتقدمة استعادت في الغالب (وفي بعض الحالات تجاوزت) مستوياتها المسجلة في بداية العام الحالي.

وأدَّى التحسُّن الكبير في الظروف المالية إلى الحفاظ على تدفق الائتمان للاقتصاد، لكن الآفاق المستقبلية لا تزال غير مؤكدة بدرجة كبيرة.

وحذَّر مدير قسم الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد، توبياس أدريان، من أن تأخر التعافي الاقتصادي قد ينجم عنه تلاشي تفاؤل المستثمرين.

ويشير أدريان إلى أنه ما دام يعتقد المستثمرون أن الأسواق ستستمر في الاستفادة من دعم السياسات، فستظل تقييمات الأصول مرتفعة لبعض الوقت، قائلاً: "ومع ذلك، وخاصة إذا تأخر التعافي الاقتصادي، فإن هناك خطر حدوث تصحيح حاد في أسعار الأصول أو موجات دورية من التقلبات".

تحذيرات خاصة

من المقرر أن يتسبَّب الوباء في عكس التقدم الذي تم إحرازه منذ التسعينيات، بما في ذلك مكافحة الفقر العالمي، فضلاً عن أنه قد يفاقم من عدم المساواة.

ويقول صندوق النقد إن الوباء قد يدفع نحو 90 مليون شخص إلى براثن الفقر المدقع هذا العام (من يعيشون بأقل من 1.90 دولار يومياً).

ووفق التقرير، فإن الأشخاص الذين يعتمدون على العمل بأجر يومي أو أولئك الذين يقعون خارج شبكة الأمان الرسمية واجهوا خسائر مفاجئة في الدخل عند فرض قيود على الحركة.

وكتبت جوبيناث أن الخسائر المستمرة في الناتج الاقتصادي تعني انتكاسة كبيرة في مستويات المعيشة، مقارنة مع ما كان متوقعاً قبل الوباء.

وتابعت: "لن يرتفع فقط معدل الفقر المدقع لأول مرة في عقدين، لكن من المتوقع أن يتزايد عدم المساواة"، مع الإشارة إلى أن النساء والعمال الأقل مهارة سيكونون الأكثر تضرراً.

في سياق آخر، حذَّر الصندوق من أن التوترات الجيوسياسية والاحتكاكات التجارية والكوارث الطبيعية والتغيرات في الظروف المالية والمزيد من حالات تفشي الوباء، تظل جميعها مخاطر هبوطية على التوقعات الاقتصادية.