في الكويت، لا تكاد المطالبات الشعبوية المتعلقة بالمنح والمزايا المالية للمواطنين تختفي عن الساحة المحلية في أي وقت، لكنّها تزداد ضراوة مع قرب الانتخابات البرلمانية، في مسعى للتكسب السياسي حتى وإن كانت هذه المطالبات في حقيقتها غير منطقية أو حتى غير مفيدة عند تحليلها للمواطنين.وغالبا ما تدور تلك المطالبات حول زيادات مالية عبر الكوادر الوظيفية أو الزيادات المالية لبدلات الأبناء والإيجار، أو تعديل قوانين التأمينات الاجتماعية أو إسقاط القروض وفوائدها، وأخيرا تمديد تأجيل سدادها بذريعة جائحة كورونا، وهي في حقيقتها لا تقتصر على كونها مطالبات غير منطقية، بل إنها من ناحية أعمق منحرفة عن مقاصد الرفاهية التي يروّجها مقترحوها لتعزيز ثقافة ريعية تعمّ آثارها السلبية الاقتصاد والمستهلكين.
فرق بين مفهومين
شتان ما بين الرفاهية والريعية، فالأولى تعنى بحياة الإنسان وتوفير خدماته الضرورية في السكن والتعليم والعلاج وجودة الخدمات وضبط مستويات التضخم وإتاحة فرص رفع مستوى الدخل ومتانة أنظمة الضمان الاجتماعي، وتصل حتى الى ارتفاع معدلات الأعمار في المجتمع ومدى الاهتمام بمعايير البيئة، وحتى الحكم الرشيد والحريات العامة والشخصية.أما الثانية - أي الريعية - فهي استهلاكية محضة تنفق مليارات الدنانير دون عوائد ملموسة على الاقتصاد، بالضبط كما تبين لنا ميزانية الكويت التي تنفق ما يوازي 70 بالمئة من مصروفاتها على الرواتب والدعوم، أو أن تكون مناقضة للمنطق كمصروفات العلاج بالخارج أو فاتورة تأمين المتقاعدين، في دولة تقدم أصلاً الخدمات الطبية بالمجان، أو حتى أن تكون لها آثار معاكسة، كما حدث مع وقف استقطاع أقساط القروض، فساهم هذا القرار، مع تداعيات "كورونا"، في رفع نسبة التضخم خلال أغسطس الماضي الى أعلى مستوى منذ عام عند 2.18%.فشل وتواطؤ
وعلى ما يبدو، فإن فشل الدولة في تحقيق الرفاهية بالمجتمع لسنوات هو من دعم تنامي المطالبات الريعية، فعندما تثقل كاهل الأسرة الكويتية بسبب صعوبة توافر السكن المستقل ودفع فاتورة تراجع مستوى التعليم والصحة ماليا، فضلا عن الآثار التضخمية لسياسات الاحتكار في السوق، ناهيك بنماذج الهدر المالي والفساد في الإدارة الحكومية، فإن طرح المشاريع الشعبوية يكون هو الخيار الأسهل انتشارا، ليس في المجتمع فقط، بل حتى عند سلطة اتخاذ القرار، والتاريخ القريب يشهد كيف تواطأت السلطة التنفيذية مع نظيرتها التشريعية في إقرار مجموعة من الكوادر والمزايا المالية التي خربت الهيكل الإداري والمالي في الدولة، وأدت الى تنامي الضغوط التضخمية في السوق، وساهمت بشكل لافت في تضخيم مصروفات الميزانية دون عائد اقتصادي واضح.ريعية القطاع الخاص
ولا تقتصر الريعية في الاقتصاد الكويتي على المواطن، بل تشمل حتى جانبا كبيرا من القطاع الخاص، الذي يعتمد في أرباحه وأنشطته على الإنفاق الحكومي من خلال المناقصات العامة، أو عبر الاستفادة من المزايا الاستثنائية التي توفرها الإيجارات الرخيصة لأراضي أملاك الدولة، وصولا الى الإعفاءات الضريبية وحتى خدمات الكهرباء والماء المدعومة، في حين تشير أرقام القطاع الخاص وبياناته الى أن قدرته على أن يكون لاعبا في عملية الإصلاح الاقتصادي محدودة، لا سيما عندما يتعلّق الأمر بمعالجة اختلالات الاقتصاد الهيكلية، خصوصا فيما يتعلّق بقدراته على توفير فرص العمل للمواطنين، التي لا تصل الى 20 في المئة من إجمالي قوة العمل الكويتية، أو محدودية تمويله للإيرادات غير النفطية للدولة، فضلا عن دوره السلبي في رفع اختلال التركيبة السكانية.ضياع فرصة
ضاع من أموال الكويت وفرصها في الإصلاح الكثير بسبب خلط المفاهيم ما بين الرفاهية والريعية، ولم يعد الوقت ولا الوضع يسمحان بذاك القدر المعتاد من التهاون كما السابق، فهذا العام تتجه الميزانية الكويتية لتسجيل أعلى مستوى عجز تاريخي في بياناتها عند 15 مليار دينار، لذلك نحتاج، إذا أردنا تغيير النموذج، الى اعتبار الرفاهية لا الريعية هي مدخل الإصلاح الاقتصادي لتحقيق نتائج تنموية عبر وضع خطة عمل تتعلّق من ناحية بتحديد عدد من الأهداف الاقتصادية والعمل بجدية على تنفيذها دون التراجع عنها، والتأكيد على أن مواجهة القوانين والمطالب الشعبوية لا يحتاجان إلى تكتيكات سياسية، بقدر ما يتطلبان إدارة كفؤة تبدد حجج أصحاب المقترحات الريعية والشعبوية.