حتى وقت قريب وقبل أن يغزو عالم التقنيات بلادنا العربية بهذه الغزارة، وهذه الأدوات التي تعددت أشكالها واستخداماتها، وكان استخدام بعضها ممنوعا ومحرما مثل "الفاكس" أو "الآلة الحاسبة" التي كان يُمنع استخدامها في الفصول الدراسية وفي الامتحانات خاصة، قبل كل هذه النماذج، وقبل أن تصبح وسائل التواصل الاجتماعي جزءا أساسيا من أدوات ومقومات الحياة اليومية، وتصير ضرورة لا يمكن لأحد أن يفلت من قوة سيطرتها إن تعامل معها ولو بنسبة قليلة، وفي حيز ضيق يبحث فيها عن كثير مما يجول في خاطره أو حين يريد التعرف على خصوصية شيء ما مهما كان موضوعه، قبل كل هذا كانت الصحف والمجلات تفرد مساحة على صفحاتها تحمل اسم: "باب التعارف"! قليل من شباب الجيل الحالي من يعرف هذا الباب، وما الدور الذي كان يقوم به حين لم تكن هناك وسائل تواصل سريعة في نتائج البحث فيها. هذا الباب (باب التعارف) كان مساحة مهمة للكثيرين الذين يملكون حب التواصل مع الآخرين مهما كان البلد الذي يقيمون فيه أو الجنسية التي يحملونها أو ديانتهم أو لونهم، فكل هذه الأمور ليست ذات قيمة بالنسبة إلى أولئك الهواة الذين يأخذهم الفضول إلى طلب التعارف معبرين عن رغبتهم بالتعارف مع أشخاص من الجنسين لهم الهوايات والاهتمامات نفسها التي يُعلن عنها الشخص كحب الرياضة أو نوع من الفنون كالغناء والموسيقى والرسم أو حب الشعر ونظمه أو السباحة وسباق الخيل... إلخ. من الهوايات التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا مع إضافة الجديد منها والذي استجد مع أدوات الزمن المتسارع في نهوضه مثل الألعاب الإلكترونية.
لا شك أن هناك فروقا كبيرة بين "باب التعارف" عبر الصحف والمجلات، وبين التعارف الافتراضي في مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها فروق ملموسة ومتوافرة في كثير من الأجهزة على كثرة تنوع محتوياتها من البرامج. كانت الرسائل تأخذ وقتا عبر البريد التقليدي حتى تصل إلى الصحيفة، ووقتا آخر كي يتم تصنيفها أو تعديلها لغويا وترتيب وقت نشرها، وبعكس ما يحدث الآن فكل هذه الخطوات تم تجاوزها في دقائق قليلة بقبول صداقة شخص ما ومراسلته بمجرد الضغط على أحد مفاتيح لوحة الكتابة في جهاز الحاسوب "كيبورد" حتى يتم استقبال الرسالة وقبولها، ومن ثم تبدأ العلاقة بين الشخصين اللذين قد تكون إقامتهما في الشارع والبلد نفسه، بل قد يكونان مقيمين في البناية نفسها، هذا وقد يكون كل منهما في بلدة صغيرة بالكاد تظهر على الخريطة من بلد بعيد في قارة بعيدة. يبدأ التعارف الشخصي والهوايات، ويتم تبادل الصور والحكايات والمعلومات وغيرها مما لا يمكن حصره في هذا المقال، كل هذا بمجرد الضغط على مفتاح صغير وكل منهما يتناول قهوته المسائية، ويستمع إلى أغنية أو يتلقى اتصالا تلفونيا على جانب آخر. لو بقينا ساعات نبحث عن الفرق بين وسائل التعارف قديما وبينها حديثا لما أمكننا إحصاؤها ولا أشكالها ونتائجها. لماذا يبحث شخص ما عن شخص آخر ليتعرف عليه؟ أتصور أن لطبيعة الإنسان الذي يبحث عن الحياة بين الجماعة، وهي سمة متوارثة منذ بداية الخليقة، دورا مهما في ذلك، حيث عاشت الجماعات صغيرة وأخذت تكبر لضرورة وحاجة حتى تتمكن من التصدي للوحوش والحيوانات الضخمة التي كان عليها مواجهتها، وكذلك لحاجة الفرد بعد أن عرف حياة الاستقرار وزراعة الأرض ما يحتاجه لحياته، وعليه فعلى مر الزمن قامت حضارات عظيمة نتيجة هذا التواصل ولكن بوسائل مختلفة ومتعددة تتفق مع كل مرحلة زمنية. لذلك صارت وسائل التواصل الاجتماعي مراكز افتراضية لصنع شكل حياة جديدة دون حركة جسدية إلا في أضيق الحدود، ولربما الآن تشكل نواة حياة جديدة من التعارف بين البشر دون تكبد عناء إلا في أضيق الحدود، وهو ما بدأنا نستشعره بعد "كـورونا" حيث صار العمل في أكثر فروعه عن "بُـعد"!! * كاتب فلسطيني - كندا
مقالات - اضافات
وسائل التعارف قديماً وحديثاً!
16-10-2020