منذ خمسة أشهر تقريباً، يتواجه نحو 100 ألف جندي هندي وصيني في جبال الهيمالايا، فقد منعت المفاوضات بين القادة العسكريين والدبلوماسيين تصعيد الاشتباكات الحدودية وتحويل المواجهة إلى صراع عسكري واسع النطاق بين أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان، لكن بعدما أدى القتال في شهر يونيو الماضي إلى سقوط أول دفعة من الضحايا على الحدود منذ 45 عاماً، سارع الطرفان إلى إرسال قوات إضافية إلى الجبهة ولا يزال التوتر في أعلى مستوياته، فرسّخت الصين سريعاً مكاسبها على طول الحدود للتفاوض لاحقاً من موقع قوة، وفي المقابل أصبحت حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أمام خيارات صعبة في ظل تفشي فيروس كورونا وتصدّع الاقتصاد الهندي.تفاقمت الأزمة الحدودية تدريجاً وسرعان ما تحولت إلى معضلة سياسية ودبلوماسية واقتصادية مستعصية بالنسبة إلى مودي، فلا يستطيع هذا الأخير أن يتقبل الأعمال العدائية الصينية في هذه المنطقة من دون المجاهرة بقوته كزعيم قومي، لكنه يعجز في الوقت نفسه عن مواجهة الصين عسكرياً من دون القيام باستثمارات ضخمة في جيش بلاده، وهي استثمارات مستحيلة في ظل الأزمة الاقتصادية القائمة اليوم. يستطيع مودي أن يلجأ إلى أصدقاء وحلفاء خارجيين في المنطقة أو على الساحة الدولية للضغط على الصين، لكن يجازف هذا التوجه بالانقلاب على التزام الهند القديم بمبدأ "الاستقلالية الاستراتيجية" الذي يقضي بتطبيق سياسة خارجية محورها الاتكال على الذات من دون عقد تحالفات وثيقة مع الدول الكبرى. كذلك، قد يكون التقرب من الحلفاء أصعب على الهند بعدما أدت سياسات مودي الداخلية، التي تعكس الفكر القومي الهندوسي الشائع في قاعدته السياسية، إلى تراجع جاذبية الهند كدولة ديمقراطية ليبرالية وعلمانية، باختصار يقف مودي، أقوى حاكم عرفته الهند منذ عقود، على مفترق طرق.
على غرار مودي في الهند، يُعتبر شي جينبينغ أقوى زعيم صيني منذ عقود، لقد تخلى أخيراً عن مقولة دينغ شياو بينغ الشهيرة "اخْفِ قوتك وانتظر الوقت المناسب"! تملك بكين أسباباً وجيهة كي ترسّخ نفوذها اليوم، فقد زادت إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية وأصبحت قوة عالمية متعارف عليها. تريد الصين الآن أن تثبت قدراتها الهائلة، فقد كانت بكين ونيودلهي في المرتبة نفسها منذ ثلاثة عقود، لكن تفوقت عليها الصين بأشواط منذ ذلك الحين ووضعت نفسها في مواجهة مباشرة ضد الولايات المتحدة، إذ تشعر الهند بالاستياء لأن الصين لا تأخذها على محمل الجد، وفي هذا السياق، يذكر وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكر في كتابه الأخير The Indian Way (على الطريقة الهندية): "على عكس بقية دول العالم، أهدرت الهند نفوذها المتزايد جزئياً بسبب الصين التي حققت نمواً أسرع منها بخمسة أضعاف".يجب أن تجد الهند طريقة للتعامل مع الصين رغم هذا التفاوت المتزايد بين البلدين من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، فلا يملك مودي خيارات كثيرة ويتّضح ضعفه في مواقف حكومته خلال أزمة الحدود المستمرة، سارع مودي إلى مهاجمة باكستان لكنه بقي حذراً جداً في اختياره للكلمات المتعلقة بالصين ونادراً ما كان يناقش علناً تحركات بكين العدائية على الحدود. يريد مودي أن يطرح نفسه كزعيم هندوسي قوي وقائد جريء لكنه يدرك أن مكانة الهند لا تُخوّلها المجازفة بخوض صراع عسكري مع الصين.في بيان صحافي مشترك في 22 سبتمبر، غداة اجتماع جمع كبار القادة العسكريين حديثاً، اتفق الطرفان على "وقف إرسال قوات عسكرية إضافية إلى خط المواجهة وتجنب أي تحركات قد تزيد الوضع تعقيداً"، لكن من خلال التوافق على "عدم تغيير الوضع الميداني بشكلٍ أحادي الجانب"، أوضحت حكومة مودي أنها غير مستعدة لإجبار الصينيين على الانسحاب من الأراضي التي استولوا عليها حديثاً أو منع جيش التحرير الشعبي الصيني من بناء أبراج مراقبة جديدة ومراكز أخرى على طول الحدود. تريد الهند أن تتجنب تصعيد المواجهة العسكرية، مما يعني أنها ستوافق على وضع المراوحة الجديد الذي فرضه الصينيون على الحدود.اقتصر أقوى رد هندي علني ضد بكين على حظر عشرات التطبيقات الصينية، بما في ذلك تطبيق تقاسم الفيديوهات الشهير "تيك توك"، لكن لا يمكن اعتبار هذا الرد كافياً لإرضاء ملايين الهنود المقتنعين بأن مودي زعيم قوي لا يُقهَر، وهي الصورة التي تحرص وسائل الإعلام الوطنية المتطرفة على نشرها عنه في الهند، لكن لن يرغب مودي في تصعيد الوضع أو يحاول استرجاع الأراضي المفقودة فيجازف حينها بخوض حربٍ تتراجع فيها فرص فوزه، ولا تملك الهند حلولاً جاهزة لمواجهة الأعمال العدائية الصينية، مع أن المقاربات الضرورية على المدى الطويل معروفة. تؤيد معظم وسائل الإعلام الهندية التوجه الذي يتخذه مودي، لكن قد يزيد وضع الحكومة تعقيداً بسبب حرصها على مدح الجيش في العقدين الأخيرين وإعطائه مكانة مرموقة واعتبار مقتل كل جندي تضحية للوطن، وقد أُعيقت محاولة مودي تبسيط الوضع على الحدود في منتصف شهر يونيو الماضي بعدما ركّزت وسائل الإعلام على مقتل 20 جندياً هندياً وأَسْر عشرة آخرين خلال اشتباكات مع الجنود الصينيين في "لاداخ".لكن يبدو أن "المشهد الخارجي" يصبّ في مصلحة الهند لأن عدداً كبيراً من البلدان الكبرى يتطلع إلى نيودلهي لمساعدتها على التصدي للصين التي تزداد قوة، لكن الهند ترددت في الاستفادة من هذه العروض لأنها تأمل منافسة الصين والتعاون معها والحفاظ على استقلالية استراتيجية في آن، لكن الأوضاع بدأت تتغير بوتيرة متسارعة، في شهر سبتمبر الماضي، عقدت الهند واليابان اتفاقاً لوجستياً للسماح لكل جيش بالوصول إلى قواعد الجيش الآخر والاستفادة من الإمدادات والخدمات التي يحتاج إليها، ومن المتوقع أيضاً أن يجتمع وزيرا الخارجية الهندي والياباني مع نظيرَيهما الأميركي والأسترالي في طوكيو خلال شهر أكتوبر كجزءٍ من حوار أمني رباعي. لا تحبذ بكين من جهتها هذا التجمع الرباعي لأنه قد يتحول إلى نسخة آسيوية من حلف الناتو، وسيضطر مودي لاتخاذ قرار نهائي حول رغبته في ضمّ الهند إلى كتلة رباعية لها طابع عسكري على الأرجح (بما يشبه تركيبة الناتو) أو تفضيله تشكيلة متعددة الأطراف وأكثر سلمية تُشدد على التعاون بدل الشراكة العسكرية ضد الصين.امتنعت الهند عن طرح نفسها كحليفة رسمية للولايات المتحدة، مع أنها تحتاج إلى دعم إضافي من واشنطن في ظل الأزمة الحدودية المتواصلة مع الصين، واستفادت نيودلهي تاريخياً من دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، لكن تضررت هذه العلاقات في السنوات الأخيرة حين اختار مودي أن يدعم علناً الرئيس الأميركي دونالد ترامب (تقاسم الزعيمان المنصة نفسها خلال تجمعات حماسية في هيوستن وأحمد آباد)، حتى أن الحكومة القومية الهندوسية التي يرأسها أبعدت الهند عن تقاليدها العلمانية والليبرالية والديمقراطية. لن تتّضح معالم أي شراكة شاملة بين الهند والولايات المتحدة ومدى التزام نيودلهي بها قبل صدور نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر المقبل، وإذا فاز الحزب الديمقراطي فسيضطر مودي للتكيف مع نوع مختلف من السياسة الخارجية الأميركية، حتى أن أجندة حكومته المحلية قد تخضع لتدقيق إضافي.سيجد مودي صعوبة كبرى في حماية مصالح الهند، بما في ذلك استقلاليتها الاستراتيجية وعلاقاتها التجارية الناشئة مع الصين، لأنه بدأ يتخذ موقفاً دفاعياً ضد بكين العدائية، لكن مودي بقي حذراً في مواقفه حتى الآن، مع أنه مضطر لقيادة الهند في اتجاه محدد: نحو تصعيد الخلاف مع الصين أو نحو تسوية موقّتة لها طابع انهزامي بدرجة معينة، ولا شك أن الأزمة الراهنة التي أصبحت محط أنظار العالم أوصلت مودي إلى موقف لا يُحسَد عليه، فهو طوّر مسيرته السياسية عبر التظاهر بالقوة طوال الوقت. لكن هذا الوضع أجبره على مواجهة عواقب خطابه المبالغ فيه وكَشَف إلى أي حد أصبحت الهند ضعيفة خلال عهده القائم منذ ست سنوات.*سوشانت سينغ
دوليات
معضلة ناريندرا مودي في جبال الهيمالايا
16-10-2020