يمكن اعتبار إعادة انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنزلة ضربة مزدوجة، أو هجوم على النظام الدولي من جهتَين، وسيتمكن ترامب من ترسيخ سيطرته على المؤسسات الحكومية، فيُخضِعها لإرادته ويتخلص من أي مقاومة متبقية داخل الحزب الجمهوري.ومن خلال التأكيد على رفض الولايات المتحدة لدورها القيادي التقليدي، ستؤثر ولاية ترامب الثانية بشكلٍ دائم على معسكر اليمين العالمي الذي يزداد ضعفاً اليوم كذلك، من المتوقع أن تتفكك التحالفات الأميركية، وينغلق الاقتصاد العالمي على نفسه وتتراجع مظاهر الديمقراطية وحقوق الإنسان بوتيرة متسارعة.
وكان خطاب ترامب خلال ولايته الرئاسية الأولى واضحاً، فهو يحرص على تطهير حكومته من الأطراف التي تقف في وجهه بطريقة منهجية ويستبدلها بشخصيات موالية له ومستعدة لتقبّل نزواته ورؤيته العالمية، وإذا احتفظ ترامب بمنصب الرئاسة في 21 يناير المقبل، فسيعتبر جميع أفعاله مبررة بعد تحقيقه فوزاً ثانياً مستبعداً، ويظن أنه المسؤول الوحيد الذي يتواصل مع الشعب الأميركي.وسيصرّ ترامب خلال ولايته الثانية على تعيين الموالين له حصراً، لكن ثمة نوعان منهم ويشمل النوع الأول الجمهوريين المرموقين والمخلصين في جميع الظروف، حتى لو اختلفوا مع ترامب حول مسائل مثل روسيا أو التدخل العسكري في الشرق الأوسط، وتشبه هذه الشخصيات مواصفات مايك بومبيو، وتشمل أعضاء مجلس الشيوخ من أمثال توم كوتون وليندسي غراهام، والسفيرة السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، ووزير الخزانة ستيف منوشين، وقد يعيّن ترامب هؤلاء الأشخاص في مناصب عليا، لكنهم لن يتمتعوا بالحرية الكافية لمعارضة الرئيس أو تنفيذ أجندتهم الخاصة إلا إذا اصطفوا مؤقتاً مع ترامب.
ضباط عسكريون
أما النوع الثاني، فيتألف من الموالين المتطرفين. تدين هذه الشخصيات بمناصبها بالكامل لترامب ودعمه لها. يشمل هذا المعسكر ناشطين سياسيين من أمثال ريتشارد غرينيل الذي كان سفير ترامب في ألمانيا وعمل كمدير الاستخبارات الوطنية طوال 96 يوماً، فضلاً عن ضباط عسكريين متقاعدين ومذيعين في قنوات الأخبار مثل أنثوني تاتا ودوغلاس ماكغريغور. تتألف هذه المجموعة أيضاً من أفراد عائلة ترامب، لاسيما الشخصيات التي لعبت دوراً مؤثراً خلال ولايته الرئاسية الأولى، ويمكن إعطاؤها مناصب رسمية في السلطة خلال ولايته الثانية. قد يتم تعيين غاريد كوشنر مثلاً كمستشار الأمن القومي أو وزير الخارجية إذا احتفظ الحزب الجمهوري بأغلبية المقاعد في مجلس الشيوخ.حلف الناتو
لكن ما الذي يريد ترامب تحقيقه بمساعدة الفريق الموالي له؟ وفق أكثر النظريات تفاؤلاً في هذا المجال، سيصبح الرئيس قومياً مسؤولاً. بعد انتهاء الانتخابات التي يحارب في سبيلها ونظراً إلى اقتناعه بأنه صوّب مسار العالم خلال ولايته الأولى، سيترك الأمور تأخذ مجراها، وقد يشعر بالرضا على حلف الناتو مثلاً إذا التزمت الدول الأعضاء فيه بزيادة الإنفاق في قطاع الدفاع. وقد تتمحور سياسته الأساسية حول تعديل الاستراتيجية الأميركية كي تتماشى مع عصر المنافسة بين القوى العظمى، لاسيما المواجهة مع الصين.لكن تَقِلّ الأدلة التي تدعم نظرية القومية المسؤولة، ولم يؤيد ترامب يوماً الفكرة المحورية التي ترتكز عليها استراتيجية الأمن القومي في عهده، وتُشدد على المنافسة بين القوى العظمى، حتى أنه لم يفعل ذلك حين طرح خطته في ديسمبر 2017. ويتخذ ترامب في الوقت الراهن مقاربة عدائية جداً تجاه الصين، لكنه اختار هذا الموقف على الأرجح، لأنه يعتبر خطابه طريقة لتحويل الأنظار عن إخفاقاته في ملف فيروس كورونا.هو لا يزال يفضّل التركيز على التجارة الضيقة والمشاكل الاقتصادية بدل الاهتمام بالمصالح الجيوسياسية الكبرى في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وهذه النظرية تستثني ترامب أيضاً، وتُسلّط الضوء على الوثائق السياسية التي لم يشارك في إعدادها مباشرةً.ولم يكن سلوك ترامب أدق معيار توجيهي لآرائه في مختلف المسائل يوماً، بل إنها تتأثر دوماً بوضعه النفسي، أي جنون الارتياب، ونظرته إلى نفسه، وحاجته اليائسة إلى الظهور في نشرات الأخبار، وضعفه أمام التملق، وغضبه من الإهانات، وحدسه الداخلي الراسخ، ويكشف تاريخ عائلة ماري ترامب أفكاراً عن خطط دونالد أكثر من الوثائق الرسمية.جون بولتون
ونظراً إلى هوية الرئيس، تبرز نظرية أخرى أقرب إلى الواقع، ووفق هذا السيناريو، ستتوسع رغباته مع كل هدف يحققه، وفي هذا السياق، يستنتج جون بولتون في كتابه أن ترامب خلال ولايته الرئاسية الثانية سيصبح "أقل تقيّداً بالسياسة مقارنةً بولايته الأولى"، وسيوسّع هامش حريته كي يتصرف على سجيته وينفذ السياسات التي تفيده شخصياً عبر ربط قراراته بمصالحه المهنية، والانغماس في النشاطات التي تزيد شعبيته وتنتج أحداثاً دراماتيكية، ومهاجمة الشخصيات التي لا تعجبه من أمثال أنجيلا ميركل، ومساعدة كل من يروق له مثل كيم جونغ أون.كذلك، من المتوقع أن يزيد اتكاله على حدسه فيتمسك بالأفكار التي كان يحملها قبل أن يصبح رئيساً ويمكنه أن يتخلى عن حلف الناتو بالكامل أيضاً عبر رفض الدفاع عن ألمانيا وفرنسا وبلدان منتقاة أخرى بموجب بند الدفاع المشترك، حتى أنه قد يتخذ هذا القرار بشكلٍ أحادي الجانب، ومن دون موافقة الكونغرس، إذ يقتصر هذا الموقف بكل بساطة على تعديل التفسير الرئاسي لمعاهدة الناتو التأسيسية التي بقيت مبهمة منذ البداية.شينزو آبي
وسبق أن حاول ترامب سحب القوات العسكرية من كوريا الجنوبية خلال ولايته الأولى، لكنه قد ينفذ هذا القرار خلال ولايته الثانية عبر عقد معاهدة سلام مع كوريا الشمالية، وركّزت تعليقاته الأولى حول السياسة الخارجية في فترة الثمانينيات على انتقاد اليابان، لكنه عدّل موقفه العدائي القديم في مرحلة مبكرة من ولايته الأولى بسبب الصداقة التي طوّرها معه رئيس الوزراء السابق شينزو آبي بحذر، لكن بعد تنحّي آبي اليوم، قد يستأنف ترامب مهاجمة اليابان ويشكك في التحالف معها. قد تؤدي هاتان الخطوتان إلى إضعاف القدرة التنافسية الأميركية في وجه الصين.وتُعتبر الصين الجهة المجهولة الكبرى خلال ولاية ترامب الثانية. تأمل أوساط السياسة الخارجية في الحزب الجمهوري أن تصبح المنافسة مع الصين المبدأ التنظيمي الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية. وإذا تبنّى ترامب هذا الموقف، فقد يستفيد هؤلاء المسؤولون من الوضع للدفاع عن مواقفهم المفضّلة تجاه الشرق الأوسط (التمسك بالالتزامات الأميركية هناك لإبقاء الصين خارج المنطقة)، وأوروبا (إقناع حلف الناتو بالانضمام إلى المعسكر المعادي للصين)، والاقتصاد (متابعة التجارة مع الأصدقاء لمنافسة الصين). لكن لا أحد يعرف مدى استعداد ترامب لدعم هذه الأجندة أو ميله للعودة إلى شكلٍ أضيق من المنافسة مع بكين، أي التركيز على الجانب الاقتصادي دون سواه، تزامناً مع التخلي عن التحالفات الأميركية.وسيكون الجزء الثاني من الضربة المزدوجة المرتقبة، أي طريقة تفاعل بقية بلدان العالم مع المستجدات، مهمة أيضاً خلال الولاية الرئاسية الثانية، وحَبَس حلفاء الولايات المتحدة وخصومها أنفاسهم بعد انتخابات عام 2016، لأنهم لم يعرفوا إذا كان فوز ترامب مجرّد حادثة عابرة أم تمهيداً لتغيير دائم: إنه أهم سؤال طرحته معظم الحكومات الخارجية عن الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية، لأن هذا الوضع له تداعيات كبرى على المستقبل. قبل انتشار فيروس كورونا، ظن معظم الحلفاء الخارجيين أن ترامب يتجه إلى الفوز بولاية ثانية. لكنهم يعتبرونه اليوم المرشّح الأقل حظاً على غرار معظم الناس. وإذا فاز بالرئاسة مجدداً، فسيتقبل الأصدقاء والأعداء على حد سواء فكرة انتهاء عصر القيادة الأميركية الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، وستختلف التداعيات المتوقعة من بلد إلى آخر، وقد يعقد بعض الحلفاء الصفقات مع الصين وروسيا، أو ربما يسعى عدد صغير منهم إلى اكتساب نظام ردع نووي مستقل. هذه المعطيات كلها ستُمهّد لنشوء عالم يتراجع فيه هامش التعاون.احتدام المنافسة
وكان فيروس كورونا كفيلاً بتعقيد الأوضاع، ويتقبل الكثيرون اليوم استحالة عودة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها قبل تطوير لقاح فاعل وتوزيعه على نطاق واسع ولايزال الاقتصاد العالمي يترنح على حافة الهاوية بسبب تفشي الفيروس، واحتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين كذلك تلاشت مظاهر التعاون، لاسيما بين الولايات المتحدة وأوروبا.وتهتم إدارة ترامب في المقام الأول برفع شعار "أميركا أولاً" أمام قاعدة ناخبيها بدل بناء تحالف دولي لمعالجة المشاكل المشتركة وخلال ولاية ترامب الثانية، يجب ألا تتوقع البلدان الخارجية أي تعاون لتسريع تعافي الاقتصاد العالمي، أو تطوير اللقاحات، أو إصلاح المؤسسات الدولية، أو تقديم المساعدات إلى المتضررين من الأزمة.وعلى صعيد آخر، لن يعود شكل السفر والتجارة إلى ما كان عليه قبل انتشار فيروس كورونا، وسيضطر كل بلد للدفاع عن نفسه وحده، وقد يحاول الاتحاد الأوروبي وبعض الأنظمة الديمقراطية الأخرى الحفاظ على النظام متعدد الأطراف، لكنه سيصبح مجرّد أثر قديم لا يتماشى مع أحداث العالم.اعترف ترامب
وخلال ولاية ترامب الأولى شعر عدد من الحكام المستبدين، من أمثال شي جين بينغ ورجب طيب أردوغان، بانعدام الأمان من جهة، لكن زادت جرأتهم من جهة أخرى، وهم يعتبرونه مشابهاً لهم، ويثقون بقدرتهم على التأثير عليه وإقناعه بأفكارهم.وفي هذا السياق، اعترف ترامب أمام بوب وودوارد بما يلي: "العلاقات التي أقيمها مع الآخرين غريبة كلما كان الطرف الآخر صارماً وسيئاً، أجيد التعامل معه أكثر من غيره. لكني لا أحبذ على الأرجح الشخصيات السهلة أو لا أجيد التوافق معها بالقدر نفسه". ومن المتوقع أن تستمر تلك العلاقات الوثيقة، وتتسارع خلال ولايته الثانية، ويسهل توقع أفكار ترامب، وبفضل خليط من التملق والتشجيع، يستطيع القادة الآخرون أن يستميلوه ويقنعوه بتوجهاتهم، سواء تعلقت بالقضاء على المعارضة محلياً أو الإغفال عن الأعمال العدائية في المنطقة.الاتحاد السوفياتي
وعند مراجعة تاريخ الدبلوماسية الأميركية، يتبين أن واحدة من أهم الفرضيات التي لم تتحقق تتعلق بما كان ليحصل لو لم يستبدل فرانكلين روزفلت نائب الرئيس هنري والاس بهاري ترومان في عام 1944.كان والاس يتعاطف مع الاتحاد السوفياتي، وأصبح معارضاً قوياً للحرب الباردة، ولو أنه أصبح رئيساً بعد وفاة روزفلت، في أبريل 1945، كان نصف القرن اللاحق ليتخذ مساراً مختلفاً بالكامل، فلا ينشأ حلف الناتو، ولا توضع خطة "مارشال"، ولا يُعقد تحالف مع اليابان، ولا تنتشر القوات العسكرية في الخارج، ولا يظهر الاتحاد الأوروبي.وبدأت الولايات المتحدة تتجه نحو لحظة أخرى ذات أهمية تاريخية خاصة. في عهد ترامب، لن يُحرَم الأميركيون من أمثال ترومان فحسب، بل سيضطرون إلى تحمّل نسخة من والاس، أي الزعيم الذي تتعارض غرائزه وأفعاله مع متطلبات الحاضر بالكامل. وفي ظل تراجع القيود المتبقية وتفاقم ضعف العالم المعاصر، قد تكون إعادة انتخاب ترامب كفيلة بتحديد مسار الشؤون الدولية خلال العقود المقبلة.