"حرية، مساواة، أخوّة" هي ثلاثية الثورة الفرنسية التي تبنت أفكار عصر التنوير وكرّستها شعاراً للجمهورية التي تعتنق العلمانية عقيدة دستورية والحرية مذهباً فكرياً وقانونياً؛ وما أحوج فرنسا اليوم، كما العالم، حكاماً ومحكومين، مسلمين ومسيحيين، مؤمنين وملحدين، الى التمسك الفعلي والحقيقي بهذه الشعارات بكل أبعادها الواقعية والحقوقية، كطوق نجاة ينقذ البشر والدول من تلاطم الصراعات الدينية والعرقية. فالمدافعة عن الحريات لا تعني المساس بالمقدسات، والتمسك بالمساواة لا يعني التغاضي عن المسلّمات، والأخوّة الحقيقية تعني الدمج والاندماج الفعليين بين أتباع الأديان وأفراد المجتمعات.
ما تشهده فرنسا ومعها العالم اليوم لا يجوز أن يؤخذ الى صراع بين شعب وآخر ولا بين دولة وأخرى، كما لا يجوز أن ينحدر الى اشتباك بين العلمانية والإيمان، إنما يجب أن يكون انتصاراً للمفهوم الحقيقي للحرية، وتمسكاً صلباً بالقانون، واستذكاراً عميقاً لمعنى الأديان وسمو مقدساتها. الحرية ليست مطلقة، وقيمتها تجوهر أكثر بعدم مساسها بحريات وحقوق الآخرين وعدم تخطيها حدود القانون، فلن يبقى الإنسان حراً عندما يبتز أخاه الإنسان، ولا حين يمس أعراض وأملاك وخصوصيات ومقدسات من يشاركه الإنسانية والمواطنة، كما لن يبقى صاحب الحق محقاً إذا أخذ ما يدعيه باليد أو استرد ما سرق منه بالعنف أو رد الإساءة بإساءة أخطر منها للإنسانية وللآخرين. فإن كان مبرراً للرئيس الفرنسي مثلاً أن يدافع عن علمانية دولته وعن قناعات شعبه ودستور أمته، فلن يقبل منه غالبية المتدينين والمؤمنين خطاب المدافعة عن أي إهانة للرموز الدينية، فكيف إذا كان المساس يطول مقام الأنبياء والرسل؟! وبالمقابل إن كان مفهوماً غضب وحنق المسلمين من التطاول على نبيهم رفيع المقام، ليس مبرراً للمسلم عامة، وللمسلم الفرنسي خاصة، أن يرتكب أي مخالفة لقانون البلد الذي ارتضى العيش فيه أو التمتع بجنسيته. المسألة إذاً تتطلب حكمة لا شعبوية سياسية، كما تقتضي حجة لا عشوائية وانفعالية إيمانية. الخطيئة المتمثلة بإعادة ترويج الرسومات المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وما تبعها من ردود فعل عنيفة من قبل بعض المسلمين أو من قبل من ينسبون إلى الإسلام، زادت حدتها خطابات سياسية انحرفت عن مسار المدافعة عن مبادئ الجمهورية الفرنسية الى أخطاء استراتيجية سببت شروخاً إضافية بين مكونات الشعب الفرنسي وبين فرنسا والشعوب الإسلامية. أحداث الساعة تعيد الى الأذهان ردات الفعل العنيفة التي تبعت نشر الرسومات المسيئة للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، في مجلة "شارلي إيبدو" عام 2015، حيث تجاهل معظم سياسيي العالم فعل النشر المهين، وتم التركيز الممنهج على ردة الفعل المنبوذة، والتي أطاحت ببعض العاملين بالمجلة الساخرة، وقد انتشر في حينها شعار "أنا شارلي" الذي كان يعني التضامن مع المجلة وصحافييها الذين لم يسلم منهم لا نبيّ ولا وليّ ولا دين سماويّ؛ من سيدنا عيسى الى أمه البتول الى نبي الرحمة محمد، إلى كل الشرائع والأديان التي يؤمن بها قسم معتبر من سكان الأرض! في وقتها كتبت مقالاً بعنوان "أنا لست شارلي"، أذكّر فيه معظم الذين شاركوا الرئيس الفرنسي في المظاهرة المليونية التي شهدتها مدينة باريس، عاصمة الأنوار والتنوير، أنه فاتهم القول مراراً: نحن مع أطفال غزّة، ومع "محمد الدرّة"، ومع أطفال مجزرة قانا في جنوب لبنان، ومع مشرّدي الشعب السوري وضحاياه، ومع فقراء بغداد، ومع الجائعين في الصومال، ومع ضحايا الإبادة الجماعية في إفريقيا وآسيا، ومع البؤساء المنتشرين في كل أصقاع الأرض المترافق مع تغاض دولي وتجاهل أممي! أنا لست "شارلي"، كنت وما زلت، لأني بالتأكيد مع حريّة التعبير التي لا تهينها الحرية في الإهانة، ومع المساواة التي تضع الجميع في كفة واحدة، ومع الأخوة فعلاً لا شعاراً، كما أني حتماً مع مقارعة الحجّة بالحجّة والتصدّي للنذالة بالتجاهل ومواجهة الإساءة بالقانون. أنا لست "شارلي" ولكني أيضاً لست قاتله، لأني أقوى منه إيماناً وتقى وسلاماً؛ إيماني لن يهون أمام حقده، وفكري لن يضعف أمام جهله، وسلامي مقترن بإسلامي الى يوم القيامة، فأنا من مدرسة محمّد، صلى الله عليه وسلّم، الذي استقبله أهل مدينة "الطّائف" بالسخرية وقابلوه بالعنف والاعتداء، فلم يقتل أحداً منهم ولم يجابههم بالسلاح، بل أطلق دعاء تقشعر له الأبدان وتتنبه من عظمته الأذهان، بدأه بالقول "اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟". وقد جاءت الاستجابة سريعة حيث نقرأ في رواية البخاري عن رسول الله قوله: "... فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ" والأخشبان هما جبلان في مكة، فردّ نبي الرحمة "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". فأين بعض المسلمين من حلم الرسول وعظمة فكره وسماحة تعاليمه؟ وأين بعض البشر من بريق شعارات الحرية والمساواة والأخوة؟! فما أحوج عالمنا اليوم إلى الحكمة، وما أعوز الإنسانية للرحمة، وما أغنى السلام بين الدول والتعايش بين الشعوب من أن يفرضه الأقوى لا الأصلح!
مقالات
«حرية... مساواة... أخوة»
28-10-2020