تعتبر جمهورية رواندا قصة تحول اقتصادي فريدة في عالم اليوم، باعتبارها أمثولة نجاح تجاوز فيها البلد الواقع بمنطقة البحيرات العظمى الإفريقية ظروف الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والمجاعة، إلى تحقيق مستويات مبهرة من النمو الاقتصادي وتضاعُف الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع نصيب الفرد من الدخل السنوي، حتى بات يطلق عليها لقب سنغافوره القارة السوداء.ففي مطلع التسعينيات، كانت رواندا حديث العالم، بسبب حربها الأهلية المدمرة بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، والتي أدت إلى انهيار مختلف الخدمات والانشطة، ففقدت البلاد نحو 80 في المئة من إنتاجها الزراعي، وحظي 10 في المئة فقط من السكان بخدمات الكهرباء، وانحدر الأمن الغذائي بما يقارب 70 في المئة، وتدهورت قيمة الفرنك الرواندي مع دخول البلد الإفريقي في مستويات تضخم جامحة، فضلاً عن آثار أخرى بالغة الخطورة في المجتمع، كتوقف التعليم، والقتل على الهوية.
رواندا الجديدة
غير أن رواندا اليوم مختلفة تماماً عن تلك التي كانت في مطلع التسعينيات، فقد نجحت في أن تضاعف ناتجها المحلي، وهي دولة شبه عديمة الموارد الطبيعية، بواقع 8 مرات، مقارنة بسنوات الحرب الأهلية، ليناهز 9 مليارات دولار، وسجلت البلاد منذ عام 2000 الى 2016 اعلى مستوى نمو اقتصادي في القارة السوداء، بما لا يقل عن 7 في المئة سنويا، وتراجع معدل الفقر في رواندا من 60% إلى 32%، ونسبة الأمية من 55% إلى 20%، وارتفع متوسط عمر الإنسان فيها من 44 عاماً إلى 68 عاماً، حسب بيانات عام 2018، كما أن لدى رواندا أكبر منشأة للطاقة الشمسية في جنوب الصحراء الإفريقية.إصلاحات
كذلك رفعت سياسات الاصلاح الزراعي والقروض الميسرة للمزارعين إنتاج البلاد من القهوة، الذي توقف تقريبا إبان الحرب الاهلية، ليصل الى الاسواق الاوروبية، وباتت القهوة الرواندية سلعة مفضلة في اسواق البن الدولية، خصوصا الاوروبية، كما تحولت العاصمة كيغالي لواحدة من اكثر مدن العالم أمناً ونظافة، لتشكل مدخولا سياحيا لميزانيتها، فالبلاد التي كانت طاردة لأهلها في مطلع التسعينيات باتت تستقبل سنويا، قبل أزمة كورونا، ما يوازي 1.2 مليون سائح في العام، لدرجة ان العاصمة وفعالياتها والسياحة فيها صارت تمول ميزانية البلاد بما يصل الى 49 في المئة من الايرادات، مع تأكيد أن ميزانية رواندا التي كانت -إبان الحرب الأهلية- تعتمد كلها على مصادر التمويل الأجنبية من قروض ومساعدات وهبات خفّضت الاعتماد عليها إلى ما دون الـ 20 في المئة. وأخيراً أطلقت رواندا أول قمر صناعي، في إطار مشروع لتحديث وتطوير شبكة الإنترنت، وفي إطار السعي لتكون رواندا مركزا للابتكار التكنولوجي في إفريقيا.إنها الإدارة
ويبقى السؤال الأساسي: كيف تمكنت دولة مزقتها الحرب الأهلية أن تتحول لنموذج في الإصلاح الاقتصادي بأقل من 25 سنة؟ ومهما توسع الشرح في تفصيل معجزة رواندا الاقتصادية، فإن مرجع النجاح يعود الى الادارة الحصيفة التي تولت البلاد منذ عام 2000 بقيادة بول كاغامي، وهو من اقلية التوتسي، فأطلق برنامجا وطنيا يقوم أولا على مشروع سياسي يحقق المصالحة بين القوميات المتحاربة وتوحيد الشعب وإصلاح المؤسسات، لا سيما القضاء، وإنجاز دستور جديد، وإلغاء المسميات العرقية كالهوتو والتوتسي في التعاملات الرسمية، وتجريم استخدام أي خطاب عرقي، ويقوم ثانياً على مشروع اقتصادي يهدف إلى رفع مستوى الدخل، وتقليل الاعتماد على المعونات الخارجية وتنمية الخدمات السياحية والفندقية والبنية التحتية، وتحديد آليات الإجراءات الضريبية، وجذب الاستثمار، وتطوير التعليم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخلق طبقة وسطى من أبناء الشعب قادرة على خلق الثروة والمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد.لا استحالة
صحيح أن مثال رواندا وحربها الأهلية لا ينطبق على دول كثيرة، ومنها دول الخليج والكويت أيضاً، لكنه يعطي دروسا على أكثر من صعيد؛ أولها انه لا استحالة في تحقيق الاصلاح الاقتصادي مهما كانت الظروف سيئة والاوضاع غير مواتية، فالبلاد الممزقة بالحرب الأهلية حققت المستحيل في سنوات قليلة، وثانيها ان الادارة الجادة القائمة على البرامج الواضحة في السياسة والاقتصاد لابد أن تنتج تحولا تنمويا نحو الافضل، وهذا بالضبط ما ينقص دول الخليج، التي تتهاون في إصلاح المؤسسات وتضع الخطط الاستراتيجية غير الواضحة، أو محدودة الواقعية، لتبني عليها آمال المستقبل، وهذه أمور لها ضريبتها على المدى المتوسط... فالأمثلة في العالم كالدروس التي تعطينا ملامح لكيفية إيجاد العلاج لأمراضنا المزمنة.