في السنوات الأخيرة، بالغت الصين في جهودها الرامية إلى عزل تايوان دبلوماسياً وعسكرياً وحتى وبائياً، لكن وجدت تايبيه وواشنطن بعض الطرق السلسة والصارمة كي تثبتا أن هذه الجزيرة ذاتية الحكم ليست وحدها، ففي شهر أغسطس الماضي، نشرت الولايات المتحدة صورة يظهر فيها طيارون تايوانيون مع مجموعة من المستشارين الأميركيين في مجال إلكترونيات الطيران وكانوا يقفون أمام بطارية صاروخ "باتريوت" في تايوان، وخلال الشهر نفسه، زارت القوات التايوانية السفارة الأميركية في تايبيه للمرة الأولى على الإطلاق وناقشت واشنطن صراحةً هناك خيار تمركز قواتها العسكرية.هل تعلن تايبيه وواشنطن بذلك أن عودة القوات الأميركية الميدانية إلى تايوان خيار مطروح؟ قد لا يحصل ذلك بطريقة مباشرة، لكن يجب ألا يستبعد أحد أن تستضيف تايوان أعداداً متواضعة على الأقل من الجنود الأميركيين في المستقبل غير البعيد.
طوال ربع قرن بدءاً من عام 1954، استضافت تايوان حتى 30 ألف جندي أميركي في حين سعت الولايات المتحدة إلى منع جيش التحرير الشعبي من محاولة إنهاء الحرب الأهلية الصينية بطريقة حاسمة، لكن التزمت الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها من الجزيرة بموجب بيانها المشترك مع بكين في عام 1972، ثم انسحبت جميع الأعداد المتبقية حين قررت الولايات المتحدة الاعتراف دبلوماسياً ببكين بدل تايبيه في عام 1979، ومنذ ذلك الحين، اضطرت وزارة الخارجية الأميركية وجميع الوكالات الحكومية الأخرى لبناء التزاماتها العسكرية في تايوان على حلول مدنية أو غير رسمية.في عام 2018، أحدثت وزارة الخارجية الأميركية ضجة عابرة حين طلبت نشر القوات البحرية الأميركية بشكلٍ روتيني لضمان أمن المعهد الأميركي في تايوان، أي مقر السفارة الأميركية في تايبيه، إذ تفيد التقارير بأن وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس امتنع عن هذه الخطوة بعد التواصل مع بكين، لكن في السنة الماضية، تكلم متحدث باسم المعهد عن انتشار قوات عسكرية أميركية هناك منذ عام 2005، ولا تقتصر تلك القوات على المارينز بل تشمل عناصر من الجيش والقوات البحرية والجوية.في عام 2018 أيضاً، سمح قانون تفويض الدفاع الوطني الأميركي بحصول تواصل بين السفن التابعة للبحرية الأميركية والموانئ، فتحركت البحرية بعد وقتٍ قصير عبر إرسال سفينة بحثية إلى الجزيرة، وفي غضون ذلك، توسّعت النقاشات في أوساط السياسة الدفاعية الأميركية والتايوانية وفي البرلمان التايواني أيضاً حول عودة المزيد من القوات الأميركية إلى تايوان، حيث تَقِلّ الأدلة على حصول أي نقاشات رسمية حول هذه المسألة، لكن أطلقت تلك الشائعات موجة من الذعر في وسائل الإعلام الصينية الحكومية وحذرت صحيفة "غلوبال تايمز" من احتمال أن تُمهّد تلك الخطوة "لإعادة توحيد البلدين بالقوة".يُعتبر تكثيف الكلام عن عودة القوات الأميركية إلى تايوان منطقياً، فقد تصاعدت الضغوط العسكرية الصينية بدرجة فائقة في السنة الماضية، فلا يستطيع جيش التحرير الشعبي إطلاق عملية برمائية لغزو تايوان بعد أو لن تكون كلفة هذا التحرك مقبولة على الأقل، لكن وتيرة جمع الإمكانات البحرية والجوية والصاروخية من جانب جيش التحرير الشعبي بدأت تُرجّح ميزان القوى في أنحاء المضيق لصالح بر الصين الرئيسي. ربما تتعدد المزايا الجغرافية التي تصبّ في مصلحة تايوان، لكن يزداد القلق في تايبيه حول قدرة الجيش على ردع أي غزو محتمل، نظراً إلى تنامي القوة الصينية في مجال أنظمة تعطيل الوصول إلى المناطق، أو يشكك البعض في قدرة الجيش التايواني على مواجهة الحصار الصيني أو التصدي للصين إذا استولت على إحدى الجزر التايوانية النائية.لكن يملك الحزب الشيوعي الصيني مبرراً سياسياً لإعادة توحيد البلدين بشروطه الخاصة، ولهذا السبب يجب أن تقنع الصين تايبيه بأن إعادة التوحيد خطوة حتمية، سواء حصلت سلمياً أو بالقوة، ولتحقيق هذه الغاية يجب أن تنشر الصين شكوكاً هائلة في تايبيه حول استعداد الولايات المتحدة للتدخل نيابةً عنها، وهي خطوة قد تُعرّض القوات الأميركية لخسائر كبرى. من وجهة نظر تايبيه، قد لا تكون عمليات بيع الأسلحة الأميركية كافية لردع الصين بشكلٍ دائم، فلا تملك تايوان الميزانية الكافية لبناء أو اكتساب القوة العسكرية التي تستطيع الولايات المتحدة تقديمها، وبما أن الولايات المتحدة تتردد في تسليم الأسلحة وأنظمة المراقبة الأكثر تطوراً لديها إلى حكومة مُعرّضة للتجسس الصيني أو الوقوع في قبضة بكين، أصبحت تايوان أكثر عرضة لخسارة ما تبقى من تفوّقها التكنولوجي على جيش التحرير الشعبي، ونتيجةً لذلك قد تُعتبر عودة القوات الأميركية والأصول التي تسيطر عليها الولايات المتحدة طريقة فاعلة للحفاظ على وضع المراوحة في المضيق.
احتمالات واقعية
تظن الولايات المتحدة أن موقع تايوان الجغرافي يعطيها مزايا لا تُعَدّ ولا تُحصى، وطالما يستطيع الأميركيون أن يجمعوا بين قدراتهم البحرية والجوية المتفوقة والقواعد العسكرية ودعم الحلفاء في السلسلة الأولى من الجزر (اليابان وتايوان والفلبين وإندونيسيا)، فإن ذلك يعني أنهم سيطرحون تهديداً استراتيجياً بارزاً عبر إعاقة الممرات البحرية التي تُعتبر أساسية بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني الذي يتكل على التصدير. كذلك، قد تستعمل قوة خارجية معينة تايوان، أكثر من أي جزيرة أخرى في هذه السلسلة، لتهديد بر الصين الرئيسي، وبما أن القواعد الأميركية الكبرى الوحيدة في غرب المحيط الهادئ تقع على بُعد آلاف الأميال في اليابان وكوريا الجنوبية وغوام (لا يزال الاتفاق الأميركي مع الفلبين مُعلّقاً)، فيُفترض أن تُسهّل تايوان تنشيط الوجود الأميركي في بحر الصين الجنوبي، فعلى نطاق أوسع، تحرص الولايات المتحدة على تأييد توزيع القوى في المنطقة نظراً إلى توسّع ترسانة الصواريخ الدقيقة والمتطورة والمضادة للسفن في الصين، إذ سيتحسن وضعها كلما نجحت في إرسال قواتها من أماكن إضافية. عملياً، لا تهتم الولايات المتحدة على الأرجح بنشر أعداد كبيرة من القوات العسكرية والطائرات والسفن الحربية في تايوان، فقد تتفوق مخاطر نشر الجنود الأميركيين بالقرب من القوة الصينية على المزايا الجغرافية التي تتمتع بها الجزيرة، كما تستطيع الولايات المتحدة أن تستغل نقطة نفوذها الأساسية في وجه الصين (أي قدرتها على عزل نقاط الاختناق على طول السلسلة الأولى من الجزر والتوجه نحو المحيط الهادئ عبر مضيق ملقا مثلاً) من دون تايوان.لكنّ ترسيخ بصمة عسكرية في تايوان، مهما كانت ضئيلة، قد يخدم المصالح الأميركية على مستويَين أساسيَين؛ فمن جهة تسمح هذه الخطوة بالتصدي للتفوق الصيني المتصاعد في مجال المعلومات إقليمياً (مثل الاتصالات وقدرات المراقبة والاستطلاع)، ومن جهة أخرى، قد تزيد سهولة عمليات البحث الأميركية عن مواقع الصواريخ الأرضية في غرب المحيط الهادئ، وتحرص الولايات المتحدة على نشر صواريخ بالستية أرضية متوسطة المدى أو من نوع "كروز" في المنطقة كي لا تتكل بالكامل على السفن الحربية الأميركية المتوسّعة التي تحمل مخازن محدودة ويصعب أن يُعاد تزويدها بالإمدادات خلال القتال، لكن الولايات المتحدة وجدت صعوبة كبرى في الاتفاق مع طرف مستعد لاستضافة هذا النوع من الصواريخ، وستكون الصواريخ الأميركية في تايوان قادرة على الوصول إلى بعض نقاط الاشتعال في بحر الصين الشرقي والجنوبي، بالإضافة إلى الموانئ والمطارات ومواقع الصواريخ المضادة للسفن في بر الصين الرئيسي.على صعيد آخر، من مصلحة الولايات المتحدة طبعاً أن تزيد المخاطر التي يطرحها أي تحرك صيني في تايوان، مما يُشجّع بكين على الاكتفاء بخيارات أقل عدائية لتحقيق حاجاتها الاستراتيجية والسياسية، ويمكن رفع التكاليف المحتملة من دون الحاجة إلى نشر قوات أميركية ضخمة. سيكون وجود عدد صغير نسبياً من العناصر العسكرية الأميركية في القواعد التايوانية واستعمال الرادارات ومعدات مماثلة كافيَين لردع بكين وإقناعها بأن أي هجوم على تايوان (أي على القوات الأميركية أيضاً) قد يؤدي إلى اندلاع الحرب مع الولايات المتحدة، فقد كان نشر صور الأميركيين في مراكز الرادارات والمواقع المضادة للصواريخ يهدف على الأرجح إلى تحقيق هذه الغاية، علماً أن أي هجوم قوي لإجبار تايبيه على التفاوض سيستهدف تلك المواقع في المقام الأول.لكنّ المخاطر السياسية والدبلوماسية التي ترافق هذه الخطوة حقيقية وقد لا تتحملها تايبيه ولا واشنطن، ورغم زيادة التوتر مع بكين في الفترة الأخيرة، فمن مصلحة واشنطن وتايبيه أن تتجنبا حشر الصين في الزاوية وإخفاء احتمالات الصراع، فحتى الآن يمكن اعتبار أي خطوة تُلوّح باحتمال عودة القوات الأميركية إلى تايوان مجرّد لعبة لكسب النفوذ، وهذه المقاربة تهدف إلى إقناع بكين بأن أسلوب الإكراه الذي تعتمده قد يعطي نتائج عكسية، لكن إذا استنتج الطرفان أن الضرورات السياسية والاستراتيجية الصينية تجعل الصراع حتمياً، وأن أفضل طريقة للحفاظ على وضع المراوحة في المضيق تقضي بزيادة المجازفات التي ترافق محاولات إعادة توحيد البلدَين بالقوة، فقد يتخذ الوضع منحىً مثيراً للاهتمام.*فيليب أورشارد