بعد نحو 44 سنة من الخدمة الجماعية في الحكومات كسيناتور ونائب للرئيس الأميركي، اكتسب جو بايدن سجلاً حافلاً في مجال السياسة الخارجية والأمن القومي، لكن عند مراجعة جزءٍ من قراراته الأساسية في مجلس الشيوخ وأدائه كنائب للرئيس، لا يمكن إيجاد أدلة قوية لدعم ترشيحه للرئاسة، بل إن أداءه يطرح أسئلة جدّية حول الانعكاسات السلبية التي سبّبتها قراراته على مستوى الاقتصاد الأميركي والأمن القومي المحلي والسلام والأمن في العالم.في عام 2008، اختار مرشّح الحزب الديمقراطي للرئاسة باراك أوباما السيناتور بايدن (ديمقراطي عن ولاية ديلاوير) نائباً له. فكّر أوباما ببايدن لأنه عضو في مجلس الشيوخ منذ 36 سنة وشخصية رائدة في مجال السياسة الخارجية وكان رئيساً أو عضواً بارزاً في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ طوال 12 سنة. خلال السنوات الثماني التي تقاسمها الرجلان في السلطة، اعتبر الرئيس أوباما نائبه بايدن المسؤول الأول عن أهم شؤون الأمن العالمي.
ظنّ عدد كبير من الأميركيين أن أوباما وبايدن سيقدمان للبلد تغييراً إيجابياً بعد عهد جورج بوش الابن وحربَي أفغانستان والعراق اللتين طبعتا إدارته. أبدى أوباما وبايدن استعدادهما للاستفادة القصوى من الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى لحل أصعب مشاكل العالم.لكن شكّك روبرت غيتس، وزير الدفاع في عهد أوباما، بأحكام بايدن في الشأن الأمني، فكتب غيتس في كتابهDuty: Memoirs of a Secretary at War (الواجب: مذكرات وزير خلال الحرب) في عام 2014 أن بايدن "كان مخطئاً في معظم شؤون السياسة الخارجية والأمن القومي في آخر أربعة عقود".في عام 2000، أيّد بايدن مبادرة الرئيس كلينتون لتطبيع العلاقات التجارية مع الصين وسهّل انتسابها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، لكن أدى تنامي القوة الاقتصادية الصينية إلى إغلاق نحو 60 ألف مصنع أميركي، وذكر معهد السياسات الاقتصادية أيضاً أن الصعود الاقتصادي الصيني كلّف الولايات المتحدة 3.7 ملايين وظيفة أميركية، معظمها في قطاع التصنيع.بين العامَين 2001 و2002، صوّت بايدن لحربَي أفغانستان والعراق اللتين أسفرتا عن مقتل 7037 جندياً أميركياً وإصابة 53117 آخرين. وتفيد التقارير بأن الحروب بعد هجوم 11 سبتمبر كلّفت دافعي الضرائب الأميركيين نحو 6.4 تريليونات دولار، وسُجّل 85% من الضحايا في أفغانستان (19350 من أصل 23113) خلال عهد أوباما وبايدن، وسقط 95% منهم في العراق (35182 من أصل 37041) خلال عهد بوش وديك تشيني، وفي المقابل اقتصرت نسبة الضحايا في عهد ترامب ومايك بينس على 1%، ففي المحصّلة، تشير التقديرات إلى مقتل نحو 800 ألف عنصر من المقاتلين وغير المقاتلين في مناطق الحرب بعد 11 سبتمبر تزامناً مع تهجير 60 مليون شخص، فقد حظيت الحربان بتأييد الأميركيين في البداية، لكن سرعان ما سئم الرأي العام المحلي من الحروب في نهاية المطاف.كيف أصبح شكل العالم بعد ثماني سنوات من حُكْم أوباما وبايدن؟طرح مؤشر السلام العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام تقييماً عاماً للوضع: تراجع نطاق السلام على مر عقد من الزمن، وبلغ الإرهاب ذروته، ووصلت أعداد القتلى في المعارك خلال الصراعات إلى أعلى المستويات منذ 25 سنة، وارتفع عدد اللاجئين بدرجة غير مسبوقة منذ 60 سنة.كذلك، رصدت وزارة الخارجية الأميركية ارتفاعاً بنسبة 34% في عدد المنظمات الإرهابية الخارجية منذ وصول أوباما وبايدن إلى السلطة في عام 2009، علماً أن 75% منها ينشط في بلدان ذات أغلبية مسلمة.وبحسب منظمة "فريدم هاوس" في عام 2016، تراجعت مظاهر الحرية العالمية على مر 10 سنوات متلاحقة وبلغت حرية الصحافة أدنى مستوياتها منذ 12 سنة، ومن أصل 7.3 مليارات نسمة حول العالم في تلك الفترة، عاش 40% من الناس في بلدان حرّة واستفاد 13% فقط من حرية الصحافة.أكد جيمس كلابر، مدير الاستخبارات الوطنية في إدارة أوباما، على الوضع العالمي السيئ خلال الاجتماع الذي عقده لتقييم التهديدات العالمية من جانب مجتمع الاستخبارات الأميركي في عام 2016.ما أبرز الاضطرابات التي شهدتها السياسة الخارجية في عهد أوباما وبايدن؟ترافقت سياسة إعادة ضبط العلاقات مع روسيا خلال عهد أوباما وبايدن (2009-2013) مع نتائج عكسية، فقد عمدت روسيا إلى ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014 وشاركت في الحرب الأهلية السورية في عام 2015، ما سمح للكرملين في نهاية المطاف بعقد اتفاقيات طويلة الأمد لإنشاء قاعدة جوية روسية وميناءً روسياً في ذلك البلد.سرعان ما تحولت المغامرة الليبية الخاطئة إلى كارثة حقيقية، فقد قُتِل أربعة دبلوماسيين أميركيين في بنغازي وأصبحت ليبيا دولة فاشلة، كذلك أدى انسحاب القوات الأميركية من العراق في مرحلة مبكرة إلى نشوء فراغ أمني سمح لتنظيم "داعش" الإرهابي بالتوسّع ومصادرة أجزاء كبرى من الأراضي وترهيب السكان في العراق وسورية بدءاً من عام 2011.على صعيد آخر، لم تكن الإدارة الأميركية مستعدة لاتخاذ موقف قوي ضد الصين، ما سمح للحكومة الشيوعية هناك بمتابعة سرقة المعلومات الأميركية في مجالات الفضاء والطاقة والأقمار الاصطناعية والاتصالات واستعمالها لإطلاق حروب وعمليات تخريب اقتصادية وعسكرية وسياسية وفق تقرير "مانديانت" في عام 2013. وبسبب غياب أي تدابير أمنية وقائية مناسبة، نجح المقرصنون الصينيون في اختراق نظام الكمبيوتر في المكتب الأميركي لإدارة شؤون الموظفين في عام 2015، فتمكنوا من الوصول إلى بيانات الموظفين والسجلات الأمنية التي تعود إلى 22 مليون أميركي تقريباً.في المقابل، طبّق الرئيس دونالد ترامب خلال أربع سنوات من عهده سياسة خارجية مبنية على شعار "أميركا أولاً"، واجهت إدارته الصين على خلفية انتهاكاتها في مجال السرقة الإلكترونية والممارسات التجارية غير الشرعية، ودعمت الحلفاء في أوروبا الشرقية للاحتماء من العدائية الروسية، وعلّقت مشاركتها في "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" بسبب عدم امتثال روسيا لشروطها، وانسحبت من الاتفاق الإيراني النووي، وقتلت قائد الحرس الثوري الإيراني، ودمّرت دولة الخلافة التي سعت "الدولة الإسلامية" إلى إنشائها، وقتلت زعيمها الإرهابي، وعقدت اتفاق سلام تاريخي في الشرق الأوسط بين دولتَين عربيتَين وإسرائيل، وهي تستعد اليوم لسحب جميع القوات الأميركية تقريباً من أفغانستان والعراق.أما جو بايدن، فهو يعرض على الأميركيين العودة إلى سياسات أوباما الخارجية الداعمة للعولمة، لكن أدت تلك السياسات إلى تراجع الحريات، وتوسّع الإرهاب، واندلاع حروب لامتناهية، وإغلاق عشرات آلاف المصانع الأميركية، وخسارة ملايين الوظائف الأميركية، لذلك يتوقف القرار النهائي اليوم على الناخبين: هل يريدون العودة إلى تلك السياسات فعلاً؟* محلل أميركي لشؤون السياسة الخارجية والأمن القومي وقد عمل سابقاً في وزارتَي الخارجية والدفاع.● فريد غيدريتش
دوليات
هل أميركا مستعدة للعودة إلى سياسات أوباما وجو بايدن الخارجية؟
30-10-2020