في ظلال الدستور: «الاتجاهات الدستورية الحديثة»... ودستور الكويت (1-2)
المصدر التاريخي للدستورعلق بعض الباحثين على عقد دور سادس تكميلي في أول خميس من شهر أكتوبر لمجلس النواب المصري على غرار عقد دور خامس تكميلي في السبت الثالث من أكتوبر في الكويت، بأن دستور 1923 في مصر هو المصدر التاريخي لدستور الكويت.وهي نظرة خاطئة، ظُلم بها الدستوران، قرنها بنظرة خاطئة أخرى، ظلم بها الخبير الدستوري المصري، الذي قدم من مصر لإعداد وصياغة نصوص الدستور، عندما نسب إليه أنه نقل دستور 1923 إلى الكويت، الأمر الذي يقتضي منا تصحيح هذا الخطأ وذلك، من خلال إلمامة عاجلة بكل من الدستورين، وبكلمة إنصاف للخبير الدستوري.
محنة دستور 1923وكان دستور 1923 لا يليق بمصر أصلاً، منذ مجلس شورى النواب، الذي تم اختيار أعضائه بالانتخاب عام 1866، فقد استطاع هذا المجلس أن ينتزع من الخديوي إسماعيل دستور سنة 1879، فتآمرت كل من إنكلترا وفرنسا مع الآستانة لخلعه بسبب صدور هذا الدستور، والذي اعترضت عليه كذلك باقي الدول الدائنة لمصر.وكان دستور 1923، الحصاد المر لثورة 1919، قد وضعته، بعد الثورة وبعد اعتقال سعد زغلول زعيمها ثم نفيه خارج مصر هو وأصحابه، لجنة من رجال الفكر والسياسة والقانون ومن الأعيان ورجال الدين، إلا أن الملك فؤاد والاحتلال البريطاني تآمرا على مشروع الدستور، الذي أعدته اللجنة، فبترا بعض نصوصه وقلصا صلاحيات الأمة، بل صلاحيات الحكومة لصالح الملك، الذي كان مدينا للإنكليز بالعرش، وخشي أن يلقى مصير الخديوي إسماعيل الذي عزل بسبب دستور 1879، فخرج الدستور مبتورا مشوهاً، ليتعثر في التطبيق منذ صدوره، حيث صدر مرسوم بتأجيل انعقاد الدور الثاني لأول فصل تشريعي، ثم صدر مرسوم بحله، حيث جرت الانتخابات لانتخاب مجلس نواب جديد، فتم حل المجلس الجديد بعد ساعات من انعقاده، بسبب فوز سعد زغلول، زعيم الأغلبية البرلمانية برئاسة المجلس، وأثناء فرز الأصوات لانتخاب باقي أعضاء مكتب المجلس، عطلت بعض نصوص الدستور، كما أرجئت الانتخابات، وألغى الملك الدستور بمرسوم، وأصدر دستورا جديداً في عام 1930، ثم أعيد العمل بدستور 1923، ولم تكتمل في ظل العمل به مدة أي فصل تشريعي. الاتجاهات الدستورية الحديثةوكانت الكويت أكثر حظاً من مصر، عندما استقدمت الخبير الدستوري العميد الراحل د. عثمان خليل، من مصر ليضع لها دستوراً، وهو صاحب المؤلف القيم (الاتجاهات الدستورية الحديثة)، وهو مجموعة محاضرات ألقاها علينا الأستاذ الكبير في قسم الماجستير بكلية الحقوق، جامعة القاهرة عام 1957/56، للنهل منها ما يلائم الكويت، وما هو أنسب لها من خيارات متعددة، كان يطرحها على لجنة الدستور والمجلس التأسيسي، ويشارك في المناقشات التي تدور حولها.فقد كان العميد الراحل موقنا بما قرره مونتسكيو في كتابه (روح الشرائع) سنة 1748م بأن "المصادفة وحدها هي التي تفسر موافقة قانون ما لشعب مختلف عن الشعب الذي وضع ذلك القانون لأجله"، فلم يترك الأمر للمصادفة، في مسودة الدستورة التي وضعها، بل حرص على أن يتلمس في ذلك آراء الرعيل الأول، وأن يناقشهم ويحاورهم في كل ما تبناه الدستور من هذه الاتجاهات.بل كان موقنا كذلك، بما قرره في مؤلفه سالف الذكر، بأهمية دراسة البيئة الاجتماعية، وأن هذه الأهمية تتضاعف عند بحث النظم الدستورية بصفة خاصة.ولهذا قصد الدكتور العميد الراحل إلى عمله في جد وأمانة وصدق، وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء، فوفق إلى أعظم حظ يستطيع العالم أن يظفر به في دستور أصبحت له الريادة بين كل الدساتير العربية، تنهل منه، ما حفل به كوثيقة تقدمية، جاوزت الحقوق السياسية للمواطن التي كانت تدور حولها الدساتير، إلى حقوقه الاجتماعية وحقوق الإنسان. وهو أول دستور في العالم كله يقرر أن مبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في الدستور، هي مبادئ تعلو نصوص الدستور ذاته، فلا يجوز اقتراح تنقيحها إلا لمزيد منها، قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمن الذي استغرقته المحاكم الدستورية لتقر هذا المبدأ.ويقول العميد الراحل في هذا المؤلف بأنه "إذا كان التجاوب بين الجماعة والقانون يبدو ممهد السبيل في نطاق القانون الخاص، ولم تعترضه فعلا عقبات خطيرة الشأن بصفة عامة، فإن الأمر كان ولايزال على عكس ذلك في نطاق القانون الدستوري ونظام الحكم، وعلة ذلك واضحة وهي حرص صاحب السلطة في مختلف العصور على التمسك بالحكم، واستماتته بالتالي في الإبقاء على النظام الذي ولاه السلطة، ولو كان أو أصبح مع الزمن مجافياً لظروف الجماعة وتطورها".فقد وجد العميد الراحل د. عثمان الطريق ممهداً أمامه، وهو يصول ويجول بين دساتير الدول المتقدمة ليستخلص منها ما يناسب الكويت، وجد تجاوبا لا مثيل له من حاكم يستشرق مستقبل بلاده مضحياً بصلاحياته لتحقيق حكم ديمقراطي يصون للإنسان كرامته ويوفر له الحرية والعدل والمساواة، والعدالة الاجتماعية.كما وجد التجاوب ذاته من الرعيل الأول الذين أقاموا من وعيهم الحجر المكين لنظام ديمقراطي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات وعلى أن السيادة للأمة مصدر السلطات جميعاً، ومن ضمائرهم السياج المتين من الضمانات الدستورية لحماية هذا النظام، ومن أدوات التوازن ما يكفل استقرار الحكم.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.