بشارة العصافير والقمح
لا تعرف العصافير إلا التحليق بعيداً، وهذا ما فعلته حينها، رحلت إلى أبعد سماء، وتركت هذه الأرض التي انفجرت كما لم يسبق لها رغم أنها رقصت على عدد من التفجيرات التي تنوعت في أساليبها وأسبابها ومرتكبيها!! العصافير ككل الطيور والحيوانات هي الأكثر وفاء والتصاقا بالأرض، هي لم تتحمل البعد الطويل، فعادت ربما لتتحسس ما تبقى وتطمئن عليه، أو ربما لأنها تمقت الجحود أحد أكثر صفات البشر عدوى وانتشاراً الآن، هنا وهناك! هي ترحل جماعات لا أفرادا كما رحل حملة الشنط الجاهزة والجرح لا يزال ينزف، لا يمكن أن نلوم أحداً، فالفئران تقفز من السفن الغارقة، فماذا عن البشر من حملة الشهادات والمشاعر؟ لا تستطيع حتى الطيور أن تعاتبهم، ولا الآخرون الباقون ربما لقلة الحيلة أو الفرص أو لكليهما معا.. عادت الطيور قافلة طويلة من الأجنحة المتلاطمة ولكنها متلاصقة. جلست حيث كانت رغم أن المكان لا يشبه ذاك الذي عرفته، بل لا يشبه نفسه، ولا شيء آخر في مختلف أرجاء الكون، منظر الدمار يطارد حتى الأرواح البريئة التي رحلت دون ذنب سوى المكان والزمان وكثير من الغموض الذي لا يزال يلف المساحات المترامية من بقايا حياة، هنا شهادات كاملة على تلك الجريمة الأكثر غموضا في تاريخ بلد حافل بكثير منها، لا يزال قيد التكهنات والتأويلات.
هي، أي الطيور، ككل الأحبة لا تستطيع أن تبعد عن مكان الحبيب حتى لو كان أطلالاً، ألم يبكِ شعراء المعلقات عند أطلال أحبتهم؟ هذا تاريخكم يعود ليطاردكم في أحلامكم، فالكل يبكي على أطلاله، وهي ليست بكاملها حطاما، بل أحيانا ببعض منه، اليوم كانت بكثافة هناك تجلس حيث طردها الخوف من انتشار الموت، وهي تحلق، لم يكن هناك أحد سوى الفراغ والحراس والأسئلة المتراصة فوق الركام. كانت تبدو سعيدة لوفرة الطعام، قمح هو أكثر من أي طعام آخر مغمس بملح بحر وثماره، هي وجبة يحلم بها كثيرون هذه الأيام سواء هنا في هذا المكان المنكوب، أو هناك ليس بعيداً جداً، حيث الطوابير هي المشهد أمام المخابز، كم شح العيش حتى أصبح الرغيف عملة صعبة كالدولار الذي يرتفع سعر صرفه وينزل حسب تصريحاتهم وتشكيلاتهم!أمام هذه الصور المتراصة لطيور هنا تقتات من بقايا قمح كان سيطعم شعبا، برزت صورتها قادمة من عند حافة ماء آخر ولكنه نهر لا بحر، وهي الأخرى تبدو مع حاضن يديها كعصفورين مغردين، قالت "اعذريني أنني أنقل مثل هذا الخبر وسط بحر من وجع متراكم حولك، وكم أنا خجلى منك"، المصريون علموني "إنه اللي تلسعه الشوربه ينفخ في الزبادي"، فكان أن أوقفت الصوت ربما خوفا من لسعة القادم، ولكن كم نستطيع أن نقاوم رسائل أحبتنا؟ أكملت الاستماع فكان أن جاءت تلك الأخيرة، وما قبلها وبعدها تحولا إلى الرسائل المنتهية الصلاحية أو التي محيت، قالت "لقد تزوجت". صرخت من الفرحة، كم يأتي الفرح مما يبدو أنه بئر عميقة بالحزن، لم أتمالك أن أردد "أكثري من أخبارك هذه، تعالي بفرحك وانثريه في قلبي"، فلا شيء يشبه ذاك الإحساس بالسعادة اللامتناهية لسعادة تبدو على وجوه الأحبة، كم تتلازم المحبة والبهجة مع الحزن والنكد، كما الليل قد يبدو طويلا بعتمته أحيانا، ولكن لا بد للنهار أن يأتي بنوره. هي والعصافير حملوا بشارة الفرح أو ربما بصيص نور في أيام تبدأ كما تنتهي بكثير من الرحيل إلى عوالم الماضي أو نبش بعضه، فالماضي كالذاكرة انتقائي جدا بإمكان بعضنا أن يركز على العتمة في حين آخرون ينبشون صناديق الذكريات عن شعاع أكبر من هنا، والآن أوسع من كل مكان سكنهم أو سكنوه، هي والعصافير كانوا البشارة حتما التي نحتاجها أيضا لندرك أن الحياة بعض من هذا وذاك، حتى لو بدت في بعضها كثيراً من هذا وقليلاً من ذاك، هي والعصافير كانوا البشارة.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية