يتضح هدف الناقد البشير الجلجلي من وراء هذا الكتاب من خلال مقدمته التي يقول فيها إنه انشد في هذا الكتاب إلى خطو العجائبيّ في الرواية العربيّة الحديثة وطريقته الفنيّة في تطويرها كمبحث متّصل بالتجريب، وهي إشكالية اهتم بها في سياق التمحيص في مدى إعلان الرواية العربية جِدّتها من خلال العجائبيّ، الذي رآه عنصراً بؤروياً تكوينياً أساسياً هيمن على مجمل المدونة.

وهذا الشاغل العام للكتاب يتطابق إلى حدّ كبير مع سياق النظر في تطور الرواية العربية الحديثة التي مرّت بالعديد من المراحل، وجربت إمكانات مختلفة لتطوير سرودها متخذة الوجهة التجريبية التي انبنت عليها بعض متون الأعمال الروائية العربية، وقد تحوطّها العجائبي وصولاً إلى الرواية الليبية التي تميز بها إبراهيم الكوني، والتي اتخذها الجلجلي في كتابه أنموذجاً، وهي وجهة مبرّرة من زوايا عديدة، أولاها اكتساح الرواية مساحة نصّية جعلها تتصدر التقبّل، وثانيها قدرة الرواية على الإيهام والمراوغة والتخييل العميق، وثالثها أن العديد من الروائيين العرب كإبراهيم الكوني وغيره راهنوا على تقنيات فنية أدخلت بعض الأعمال الروائية في مساحات من التخييل واسعة وأمارات من التجريب عميقة، وبخاصة تجريب التعجيب، ما رشّح أن تكون هذه الأعمال ضامنة للإغراء والمتعة في آن واحد.

Ad

ويوضح الجلجلي: "لقد توسّلنا في هذا البحث بخطة ثلاثية الأبواب: أوّله نظريّ يتصل بإشكاليّة العجائبيّ وتأثيره في الرواية العربية متّخذين ثلاثة منافذ: الأوّل يبحث في مرادفات المفهوم، والثّاني يتعلق بحدّه لغوياً واصطلاحياً وتمايزه عن الحقول المجاورة له كالعجيب والغريب وفوق طبيعي والسحري واللامعقول وغيرها من المصطلحات التي تميّز منها العجائبي بمفهوم التردد (hesitation)، والثالث يندرج في الصيغة التجريبية للعجائبي في الرواية العربية، أما البابان الثاني والثالث فجاءا تطبيقا على مدوّنة إبراهيم الكوني الروائية بخاصة رواية (نزيف الحجر) بحثاً من ناحية في مظاهر العجائبي ومصادره، ونظراً في أهميته كتقنية فنّية طافحة بالدلالة ومن ناحية أخرى باعتباره عنصراً مهيمنا، ذلك أن العنصر الفني المهيمن (يسم الأثر في كلّيته) بعبارة جاكبسون".

ويتابع: "هذه الخطّة الثلاثيّة كان لها كبير الأثر في النتائج التي توصّلنا إليها تمحيصاً في المدونة الروائية العربية وحضور العجائبي فيها، ونظراً في السياق التاريخي والحضاري الذي استدعاه الكاتب العربي - بخاصة إبراهيم الكوني- لتسييج نصّه به تجاوزاً للنمطية التي تردت فيها الرواية العربية، وبحثاً عن آفاق جديدة استفادت من هذا الشريان الهام متخذين العجائبي جنساً خطابياً به ينعتق من الممكن إلى المستحيل، فهو من التقنيات الفنية المهمة للتجريب الذي خاضته الرواية العربية الحديثة منذ أكثر من أربعة عقود. وإبراهيم الكوني إذ يبحث بهذا المعنى عن إمكانات جديدة لمشروعه الروائي فإنه تخطى البعد المحلي (الرواية الليبية) إلى رؤى مغايرة للإنسان والعالم والعوالم التّخييلية وفق سُلالة سردية جديدة.

وحظي الكتاب منذ صدوره في نهاية سبتمبر الماضي عن دار "سوتيميديا" باهتمام كبير من جانب الإعلاميين والنقاد، فقال عنه أستاذ الحداثة في الرواية العربية، المغربي عبدالعالي بوطيب: "للناقد قدرة مكنته من تصريف مفهوم العجائبي وتوظيفه في مقاربة روايات الكوني، ما جعل هذه الدراسة إضافة مهمة للمشهد النقدي الروائي العربي". أما صاحب التقديم الدكتور فؤاد القرقوري من تونس، فقال: "نرى ذات المؤلف متعلقة بأدب إبراهيم الكوني عاشقة لنصوصه عشقاً مفضوحاً"، وهو ما أكده صاحب المقدمة الثاني أستاذ الأدب القديم بالجامعة التونسية الدكتور الحبيب العوادي (رحمه الله)، بقوله: "يعتبر الكتاب مساهمة جادة في دراسة العجائبي مفهوماً وجنساً مخصوصاً من الخطاب الأدبي الحداثي ذي المنزع التجريبي".

وأكدت الباحثة الأردنية الدكتورة مريم جبر، أن هذا الكتاب "سيترك أثره في مسيرة البشير الجلجلي ناقداً يتحرى الجدة والتجديد، كما يُشكِّل إضافة متميزة للمكتبة النقدية العربية"، وهو ما لاحظه الناقد التونسي رضا بن صالح في وصله بين تنقيب الكوني في اللاوعي الجمعي للطوارق وبحث الجلجلي في تلك الرحلة عبر تيمة العحائبي.

هذه العلاقة بين الروائي والناقد كان من ثمارها هذا الكتاب في عزف ثلاثي بين الكاتب والباحث والعجائبي، الذي يشكل لحظة حاسمة في قرار القارئ بين العجيب والغريب حسب التعريف التودوروفي.

وهو ما أكده الشاعر التونسي محمد الهادي الوسلاتي في أحد مقالاته بقوله "البشير الجلجلي أحسسناه تناول إبراهيم الكوني باللسان والعين والقلب، وتحريض العقل وذخيرته كأشعة تطل على أوجاع كاتب عجائبي مقيم في مدونة روائية دون ثيابها الداخلية".