بعد أن تنتهي الانتخابات الرئاسية الأميركية ستكون الترتيبات الحزبية في نظام الحكم الأميركي الفدرالي بأكمله تقريبا عرضة للتغيير، ويبدو مؤكدا أن مجلس النواب وحده هو الذي سيبقى تحت سيطرة ذات الفصيل المسيطر عليه حاليا (الديمقراطيون)، أما مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الجمهوريون، فقد يظفر به الديمقراطيون، وها هي المحكمة العليا ذات النزعة المحافظة تنجرف إلى أقصى اليمين، بعد ما أقر مجلس الشيوخ تعيين إيمي كوني باريت، مرشحة الرئيس دونالد ترامب، في المقعد الذي كانت تشغله سابقا القاضية الليبرالية الراحلة روث بادر غينسبيرغ.من غرائب النظام الأميركي أنه حتى في حال فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بالانتخابات، وتغلبه على العراقيل الملقاة في طريقه بسبب قرارات المحكمة واستراتيجية قمع وإعاقة الناخبين، ستظل الرئاسة في أيدي رجل مشكوك في اتزانه البدني والعقلي لمدة تزيد على شهرين، وتعد الإجراءات الدستورية الحالية للتعامل مع عدم أهلية رئيس الدولة عقليا أو بدنيا غير عملية. وما يقال في العلن عن هذا الوضع الخطير قليل، إذ تخشى الصحف الجبانة الحديث عن العم المجنون الموجود بالبيت الأبيض، حتى مع تزايد انحراف سلوك ترامب في الآونة الأخيرة عن المعتاد، ولعل ذلك بسبب تأثره بالإصابة بفيروس كوفيد19 وتناوله عقاقير قوية التأثير.
وربما خلط ترامب بين السباق الرئاسي الحالي وانتخابات 2016، إذ عاود مهاجمة هيلاري كلينتون وانقلب على أكثر أعضاء إدارته خضوعا له لعدم توجيه اتهامات لها وللرئيس السابق باراك أوباما لأية أسباب أو مبررات، فهو يلقي جزافا اتهامات غامضة بممارسة اليسار للإرهاب، وبوجود احتيال في الاقتراع عبر البريد، رغم توصل صحيفة «واشنطن بوست» إلى نتيجة مفادها أن اتهامات ترامب بتزوير بطاقات الاقتراع ما هي إلا تدليس.في حال فوز بايدن على ترامب (تُعتبر استطلاعات الرأي الحالية في مصلحة بايدن، ورغم كونها أجدر بالثقة من استطلاعات انتخابات 2016 فهي غير قادرة على التنبؤ بتأثير استخدام استراتيجية قمع الناخبين) لن تدوم احتفالات أنصاره طويلا، إذ توجد بالفعل جدالات كثر داخل أروقة المحاكم التي تغيرت بدرجة كبيرة نتيجة لما قام به ترامب وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل من تعيين 220 قاضيا فدراليا بصورة مفاجئة وصادمة. فضلا عن ذلك، يدبر الجمهوريون بمجلس الشيوخ بالفعل مكيدة لتقويض ظهور أغلبية ديمقراطية في المجلس.لكن أكبر تهديد سيواجه بايدن وأي حكومة تقدمية لوقت طويل في المستقبل سينشأ من المحكمة العليا، حيث أفرزت المصادقة على تعيين باريت (48 عاما) أغلبية محافظة جداً بنسبة 6 إلى 3، بشكل شبه مؤكد، ولن يكون لدى رئيس المحكمة جون روبرتس، الذي حاول الحفاظ على المحكمة من الانجراف إلى أقصى اليمين أو اليسار، مزية الصوت الحاسم عند تأرجح الأصوات بعد الآن، مما يجعل شرعية المحكمة الآن محط تساؤل.لقد كانت جلسات الاستماع الخاصة بترشيح باريت صورية، ليس بسبب عدم تجاوبها مع الأسئلة، لكن لأن الأمر كان مدبرا. فقد أصر ترامب على أنه لم يطرح على باريت أسئلة بشأن القضايا الحساسة، وصرحت باريت بتعجرف أن ترامب لم يسألها عن موقفها بشأن قضايا كالإجهاض وقانون الرعاية الميسرة، كما لم تناقش مواقفها معه. فكيف لأحد أن يجرؤ على التشكيك في نزاهتها؟كان الأمر برمته تمثيلية، فمن خلال عمليات الاكتشاف والتدقيق المكثف وسنوات من زراعة مرشحين محتملين للمحكمة العليا من قِبل الجمعية الفدرالية التي تنتمي لليمين وتتولى رعايتها شركات وتتحكم بشكل مؤثر في مرشحي الرؤساء الديمقراطيين لمنصة القضاء الأعلى، كان ترامب ومساعدوه على معرفة تامة بمواقف باريت بشأن القضايا الرئيسة (الديمقراطيون الليبراليون لديهم أيضا جماعات تدعم القضاة، لكنها ليست على القدر نفسه من التنظيم والتأثير الذي تحظى به الجمعية الفدرالية). ويتركز الغرض من مثل ذلك التدقيق المكثف في تحاشي «المزيد من المفاجآت»، حتى لا يتم مجددا تعيين مرشحين ديمقراطيين يظهرون في البداية بمظهر المحافظين، ثم يتحولون إلى اليسار بعد ذلك، وقد كان من أبرز الأمثلة التي تضايق المحافظين في هذا الصدد ما فعله القاضي ديفيد سوتر، الذي عينه جورج بوش الأب، حيث جرى الترويج لسوتر على أنه محافظ، ثم صار ليبراليا صرفا.كان إصرار ترامب على تنصيب باريت قبل الانتخابات السبب وراء التسرع في تثبيتها بالمحكمة، حتى تكون حاضرة حال إحالة قضايا تمس الانتخابات إلى المحكمة، وهذا ما قاله الرئيس صراحة. وقد رفضت باريت الالتزام بالتنحي عن نظر القضايا المتعلقة بإعادة انتخاب ترامب، كما كانت العجلة لإقرار ترشيحها شكلا من أشكال الحماية للمحافظين حال خسارة الجمهوريين الأغلبية في مجلس الشيوخ.إن زعم القضاة المنتمين إلى تيار اليمين بأن فلسفتهم القانونية «الأصولية» تعكس تقيدا قانونيا وإحجاما عن «التشريع من فوق المنصة» لهو أيضا ادعاء صوري زائف، إذ ينظر النقاد إلى الأصولية على أنها حصان طروادة: فهي تبرر دورا نشطا في إبطال تشريعات تقدمية كتلك المتعلقة بالبيئة أو العمل وغيرهما، على أساس أنه لم يرد ذكر مثل تلك الأمور عند وضع الدستور.كذلك يمثل تعيين باريت انعكاسا آخر لسيطرة اليمين المتدين على التيار المحافظ في الوسط القضائي الأميركي، ويمثل استدامة هذا الوضع سببا رئيسا لاحتفاظ ترامب بدعم الإنجيليين، رغم انخفاض هذا الدعم قليلا في الآونة الأخيرة، لا سيما أن كاثوليكية باريت من النوع «المتطرف» «المؤيد لسلطة البابا المطلقة» التي تبدو معارضة للتغيير في حد ذاته، كما كانت تنتمي لجماعة مسيحية مؤثرة تُعرف باسم «أهل الحمد»، التي تعتقد بأفضلية الرجال على النساء داخل الأسر، ويتكلم أعضاؤها بالألسنة (الهمهمة)، ورغم قيام تلك الجماعة بحذف أي إشارات إلى القاضية باريت من وثائقها العامة، فهناك قصاصة تظهر أنها كانت تتولى منصب «أَمَة»، وهو منصب قيادي، داخل الجماعة.أما عن الإجهاض، فلن يتسنى لأحد الفوز بدعم المجتمع الفدرالي إن لم يظهر اعتراضاته على القرار في قضية «رو ضد ويد» الذي منح المرأة حق الإجهاض، ومع انضمام باريت للقضاة المحافظين الآخرين- ومنهم مرشحا ترامب الآخران نيل جوروش وبريت كافانو- بات من المحتمل الآن أن يُنقَض القرار المؤيد للفتاة «رو»، أو أن يُبطَل من خلال قرارات أخرى.عندما يدلي أكثر من 60 مليون ناخب أميركي بأصواتهم بالفعل، وهو عدد غير مسبوق في تلك المرحلة من الانتخابات، ربما يكون الأوان فات بالنسبة لترامب كي يعيد الأمور إلى نصابها، ومع قدوم الشتاء، ووصول الإصابات بفيروس كوفيد19 لمستويات عالية غير مسبوقة، وتخلي البيت الأبيض عن دور المشاركة في السيطرة على الجائحة، لم تعد تكهنات الأميركيين القلقين بشدة مقتصرة على من سيفوز بالانتخابات، لكنهم يترقبون أيضا، وللمرة الأولى في التاريخ، ما إذا كان الرئيس سيحترم النتيجة، وما إذا كانت المحكمة العليا ستحرضه على تقويضها.*إليزابيث درو* صحافية ومؤلفة مقيمة في واشنطن، ومن أحدث مؤلفاتها كتاب «يوميات واشنطن: تقرير ووترغيت وسقوط ريتشارد نيكسون».
مقالات
ترامب يحشد المحكمة على هواه
04-11-2020