كما قادت الصين التعافي الاقتصادي العالمي في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، فإنها تضطلع اليوم بدور مماثل، فالآن يكتسب انتعاشها بعد جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19) المزيد من الزخم وسط عالَـم متقدم لا يزال يقف على أرض متداعية، ومن المؤسف أن هذه حقيقة مؤلمة لكثيرين، وخصوصا في الولايات المتحدة، حيث بلغت شيطنة الصين أبعادا أسطورية.الأزمتان مختلفتان بطبيعة الحال، فقد كانت وول ستريت نقطة انطلاق أزمة 2008، في حين تولدت جائحة كوفيد19 في الأسواق الرطبة في ووهان، ولكن في الحالتين، كانت استراتيجية الصين في الاستجابة للأزمة أكثر فاعلية بأشواط من تلك التي استعانت بها الولايات المتحدة، وفي السنوات الخمس التي أعقبت اندلاع أزمة 2008، بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي 8.6 في المئة في المتوسط (على أساس تعادل القوة الشرائية). ورغم أن هذا المستوى كان أبطأ كثيرا من الوتيرة القوية (وغير المستدامة) التي بلغت 11.6 في المئة في المتوسط في السنوات الخمس السابقة، فإنه كان أربعة أضعاف متوسط النمو السنوي الهزيل للاقتصاد الأميركي الذي بلغ 2.1 في المئة على مدار فترة ما بعد الأزمة، من 2010 إلى 2014.
تُـلـمِـح استجابة الصين للجائحة إلى نتيجة مماثلة في السنوات المقبلة، إذ يشير تقرير الناتج المحلي الإجمالي للربع الثالث من عام 2020 إلى عودة سريعة إلى اتجاه ما قبل كوفيد19، ولا ينقل رقم نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 4.9 في المئة على أساس سنوي الحس الكامل بالتعافي الذاتي الدعم الناشئ الآن في الصين. يزودنا قياس النمو الاقتصادي على أساس ربع سنوي متتابع وتحويل هذه المقارنات إلى معدلات سنوية- البنية المفضلة بين خبراء الإحصاء في الولايات المتحدة- بحس أوضح كثيرا للتحولات اللحظية في الزخم الأساسي لأي اقتصاد. على هذا الأساس، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الصين بمعدل سنوي تتابعي بلغ 11 في المئة في الربع الثالث، بعد ارتفاع بنسبة 55 في المئة بعد الإغلاق في الربع الثاني.المقارنة مع الولايات المتحدة جديرة بالملاحظة، فقد شهد كلا الاقتصادين انكماشات مماثلة خلال فترة الإغلاق، والتي جاءت في الولايات المتحدة بعد ربع واحد من مثيلتها في الصين، كان الانخفاض التتابعي الحاد بنسبة 33.8 في المئة (المحسوب على أساس سنوي) في الربع الأول شبه متطابق مع الانكماش بنسبة 31.2 في المئة في الولايات المتحدة في الربع الثاني، واستنادا إلى البيانات القوية (الشهرية) الواردة، فإن ما يسمى تقدير الناتج المحلي الإجمالي الآن، الصادر عن بنك الاحتياطي الفدرالي في ولاية أتلانتا، يضع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي التتابعي للربع الثالث في الولايات المتحدة عند نحو 35 في المئة. ورغم أن هذا تحول لافت للنظر وموضع ترحيب عن الانحدار غير المسبوق خلال الإغلاق، فإنه يقل بنحو 20 نقطة مئوية عن انتعاش ما بعد الإغلاق في الصين ولا يزال يترك الاقتصاد الأميركي عند مستوى أقل بنحو 3 في المئة من ذروته في أواخر عام 2019.لكن ارتدادات ما بعد الإغلاق ليست القصة الحقيقية، إنها أشبه بالارتداد السريع لشريط مطاطي مشدود، أو من الناحية الإحصائية، النتيجة الحسابية لإعادة تشغيل اقتصاد تعرض للتو لتوقف مفاجئ غير مسبوق، ويأتي الاختبار الحقيقي بعد الارتداد السريع، وهنا تتمتع استراتيجية الصين بأعظم مزاياها.استعارت استجابة الصين لجائحة كوفيد19 صفحة من كتاب القواعد الذي استعانت به في عام 2008، عندما أحاطت أسواقها المالية بأسوار حماية ضد التداعيات السامة لأزمة الرهن العقاري الثانوي. كان الهدف آنذاك شديد الوضوح منذ البداية: معالجة مصدر الصدمة ذاتها لا الأضرار الجانبية التي أحدثتها الصدمة، ولم ينجح الحافز المالي للفترة 2008-2009 بقيمة 4 تريليونات يوان صيني (596.4 مليار دولار أميركي) إلا لأن الصين اتخذت إجراءات قوية لعزل أسواقها عن عدوى مالية خبيثة. النهج الذي تتبناه الصين اليوم مشابه: أولا، عزل مواطنيها عن العدوى الممرضة الخبيثة من خلال تدابير الصحة العامة الصارمة التي تهدف إلى احتواء وتخفيف حدة انتشار المرض، ثم استخدام السياسة النقدية والمالية بحكمة لتعزيز ارتداد ما بعد الإغلاق، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن النهج الذي تبنته الولايات المتحدة، حيث يدور جدال ما بعد الإغلاق حول استخدام السياسات النقدية والمالية كأدوات على الخطوط الأمامية للتحرير الاقتصادي، بدلا من الاعتماد على تدابير الصحة العامة المنضبطة التي تهدف إلى احتواء الفيروس.هذا يسلط الضوء على التناقض الحاد بين استراتيجية "كوفيد أولا" التي تنتهجها الصين ونهج "أميركا أولا" الذي تتبناه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي الصين، على النقيض من الولايات المتحدة، لا توجد مقاومة سياسية وعامة لأقنعة الوجه، والتباعد الاجتماعي، والاختبارات الصارمة كمعايير أساسية لعصر كوفيد19. من ناحية أخرى، أصبحت الولايات المتحدة في خضم موجة ثالثة خطيرة من العدوى في حين تواصل الصين ممارسة سيطرة فورية وفعّـالة على حالات تفشي المرض الجديدة، وفي وقت سابق من هذا الخريف، على سبيل المثال، جرى إخضاع تسعة ملايين مواطن في تشينغداو للاختبار في غضون خمسة أيام فقط بعد فاشية صغيرة نسبيا أصابت أقل من 20 من السكان، وعلى النقيض من هذا، يتعامل ترامب مع تجربته الخاصة مع الإصابة بعدوى كوفيد19 على أنها وسام شجاعة منحرف يضعه على صدره، بدلا من كونه إشارة تحذير لما قد ينتظرنا في المستقبل.في هذا السياق، تتناقض أرقام الناتج المحلي الإجمالي في الصين في الربع الثالث بشكل أكثر حدة مع حالة ما بعد الإغلاق غير المستقرة في الاقتصاد الأميركي، وبسبب الضائقة الجارية في سوق العمالة الأميركية- حيث ظلت مطالبات التأمين ضد البطالة أعلى من 800 ألف طلب على متوسط متحرك لأربعة أسابيع حتى منتصف أكتوبر، وحيث ظل معدل البطالة الوطني عند مستوى 7.9 في المئة في سبتمبر أكثر من ضعف مستوى ما قبل الجائحة (3.5 في المئة)- أصبح اقتصاد أميركا الذي يقوده المستهلك معرضا بشدة لانتكاسة. وتسبب تزامن موجة جديدة من الإصابات بعدوى كوفيد19 مع الجدال السياسي المتقطع حول حزمة إغاثة مالية جديدة فعليا في تحييد الروح الحيوانية التي أمدت التعافي في الولايات المتحدة بالوقد لفترة طويلة.في حين يستند النمو التتابعي (السنوي) في الصين بنسبة 11.2 في المئة في الربع الثالث من هذا العام فعليا على ارتدادها السريع بعد الإغلاق، فإن بعض علامات الضعف المتبقية تظل واضحة في العديد من قطاعات خدمات المستهلك الرئيسة، على جه التحديد، السفر، والترفيه. إن الطبيعة البشرية هي ذاتها في كل مكان، مع استمرار الخوف والحذر، حتى في البلدان حيث كانت تدابير الاحتواء الصارمة ناجحة، أما عن الدول غير الراغبة في التركيز على الاحتواء، مثل الولايات المتحدة، فإن الظل الطويل الذي تخلفه أزمة كوفيد19 يجب أن ينبئها بالكثير عن مخاطر الركود المزدوج الحاضرة دوما، هذا هو على وجه التحديد ما حدث في أعقاب ثمان من أصل 11 من حالات الركود الأخيرة في الولايات المتحدة، فالحق أن التناقض مع التعافي الذاتي الدعم في الصين من غير الممكن أن يكون أشد وضوحا. *ستيفن س. روتش* عضو هيئة التدريس في جامعة يال، وهو مؤلف كتاب "علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أميركا والصين".
مقالات
الصين تقود مرة أخرى
04-11-2020