في دول البلقان، يكون صوت القوى العظمى مؤثراً جداً، فقد أدت الكلمات المتغطرسة التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركي جيمس بايكر في يونيو 1991، حين قال "ليس لدينا أي كلب في ذلك القتال"، إلى إطلاق مسار تفكيك يوغوسلافيا بطريقة عنيفة، فثمة عملية مشابهة قيد التحضير اليوم.

مهّدت الأجندة الاقتصادية التي وضعتها إدارة ترامب لأسوأ تدهور في العلاقات منذ أن انتهت حروب المنطقة قبل عشرين سنة. تتباهى الإدارة الأميركية بنجاح الرئيس دونالد ترامب في "قَلْب الطاولة" في البلقان عبر تركيزه على الاقتصاد وازدرائه بالالتزامات السياسية، لذلك تواجه اليوم ستة بلدان من أكثر الدول هدوءاً على الأقل (صربيا، كوسوفو، مونتينيغرو، البوسنة والهرسك، بلغاريا، مقدونيا الشمالية) مستويات خطيرة من الاضطرابات العرقية المتداخلة تحت أنظار إدارة ترامب.

Ad

في أحدث مثال على ما يحصل، شجّع كبار المسؤولين الأميركيين هذا الشهر أحد الحلفاء في الناتو (بلغاريا) عن غير قصد على تهديد حليف آخر (مقدونيا الشمالية) بتنفيذ تدخّل عسكري، ففي 6 أكتوبر قابل وزير الدفاع الأميركي مارك إيسبر نظيره البلغاري كراسيمير كاراكاشانوف، وهو قومي متشدد لديه سجل حافل بالمواقف الرنانة ضد مقدونيا الشمالية المجاورة، وفي الشهر الماضي كرر كاراكاشانوف، تزامناً مع تصاعد الضغوط من حكومته، التهديد البلغاري بإعاقة المفاوضات التي تأجلت كثيراً مع مقدونيا الشمالية وتتعلق بالانتساب إلى الاتحاد الأوروبي: إنها ركيزة أساسية من الاستراتيجية العابرة للأطلسي لتجديد الاستقرار في البلقان.

وبدل الضغط على كاراكاشانوف بسبب استفزازاته ومحاولة ضبط الوضع، تذكر مصادر وزارة الدفاع الأميركية أن الوزير البلغاري قوبل بالمديح في واشنطن حين تفاوض المسؤولون حول "خريطة طريق مدتها 10 سنوات للتعاون في قطاع الدفاع" ولبيع ثماني طائرات مقاتلة من طراز "ف-16". لم يُلمِح إيسبر إلى أي مخاوف حول الأوامر الصادرة من بلغاريا، بل رحّب بكاراكاشانوف الذي ردّ التحية لترامب، وبعد هذه الأجواء الودّية في واشنطن، زار المسؤول البارز في وزارة الخارجية الأميركية، رينيه كلارك كوبر، بلغاريا في 20 أكتوبر فعبّر بكل وضوح عن "امتنان الولايات المتحدة لبلغاريا بسبب التزامها بالتحالف".

بعد مرور يومين، صَدَم كاراكاشانوف المنطقة عبر التهديد صراحةً بإرسال القوات العسكرية البلغارية إلى مقدونيا الشمالية، وترافق هذا التحذير مع ادعاء كاراكاشانوف بأن مقدونيا الشمالية تُهدد "سيادة الأراضي البلغارية"، فأوحى بأن العاصمة صوفيا لديها مبرر للتحرك العسكري، وامتنعت إدارة ترامب عن توجيه أي رسالة بارزة قبل هذه الاضطرابات، حتى أن الولايات المتحدة لم تتخذ موقفاً مؤثراً بعدها، لذا اضطرت وزيرة الدفاع في مقدونيا الشمالية، رادميلا سيكيرينسكا، لإصدار الاستنكار المناسب فقالت: "بلغاريا عضو في الناتو ونحن عضو في الناتو، ولا يمكن أن يتواصل أعضاء الحلف نفسه بهذه الطريقة".

لا شيء يبرر صمت الولايات المتحدة في هذا الملف، وقد هاجم عدد كبير من البلغاريين البارزين حكومتهم بعدما ضايقت سكان مقدونيا بسبب خلافات حول هويتهم واعتبروا أن هذا التحرك سيؤذي بلغاريا نفسها، لكن عمدت العاصمة صوفيا في الأسبوع الماضي إلى منع انتساب مقدونيا الشمالية إلى "فرونتكس"، الوكالة الأوروبية لحرس الحدود، مما أدى إلى إضعاف قدرة العاصمة سكوبيه على وقف موجة الهجرة غير الشرعية والتحقق من الجرائم العابرة للأوطان على الحدود التي تتقاسمها مع بلغاريا. أصبحت بلغاريا معزولة داخل الاتحاد الأوروبي الذي يمنع الدول الأعضاء من جلب أي خلافات ثنائية إلى إطار التفاوض المعمول به في الاتحاد، وزاد الوضع سوءاً حين أعلن كاراكاشانوف صراحةً أن سكان مقدونيا "سيرحّبون" بالقوات البلغارية.

وخلال القمة الصاخبة بين صربيا وكوسوفو في المكتب البيضاوي في 4 سبتمبر اعتبر الرئيس وثيقة الالتزامات المؤلفة من صفحتَين بين الطرفَين "تاريخية" و"إنجازاً كبيراً"، وخلال التجمعات الحزبية، أصرّ ترامب على أنه يستحق نيل جائزة نوبل للسلام لأن مبادرته "توقف جرائم القتل الجماعية بين صربيا وكوسوفو".

عملياً، ترافق موقف ترامب المبالغ فيه وتركيز إدارته الحصري على الشؤون الاقتصادية مع ثلاث نتائج سلبية:

أولاً، أدت صفقة "التطبيع الاقتصادي" إلى تخفيف الضغوط على الطرف المتعنّت، أي بلغراد، ومن خلال المشاركة في مبادرة البيت الأبيض، نجح رئيس صربيا المستبد ألكسندر فوتشيتش، وهو سياسي قوي ومتشدد آخر، في تلميع صورته من دون التعرّض للضغوط لتقديم تنازلات كبرى لخصمه.

ثانياً، تدرك بلغراد، على غرار صوفيا، أنها تستطيع نشر مفهومها السلبي عن القومية من دون أن تخشى التوبيخ الأميركي لأن إدارة ترامب تنشغل في المقام الأول بالحفاظ على صورتها الناجحة، وبناءً على استفزازات مدروسة، استعمل وزير الدفاع الصربي ألكسندر فولين في مناسبات متكررة وصفاً هجومياً جداً للشعب الألباني في البيانات الرسمية، وأصدر وزير الخارجية السابق إيفيكا داتشيتش تهديداً خطيراً ضد الصرب المشاركين في عملية الاتحاد الأوروبي الرامية إلى التعرّف على مفقودين.

وفي حين التزم المسؤولون الأميركيون الصمت، أحدث هذا الكلام الهجومي ردة فعل عنيفة من جانب الحكومة والمعارضة في بريشتينا، فصرّحت رئيسة برلمان كوسوفو، فيوسا عثماني، أن تلك التعليقات تثبت أن "عقلية الإبادة الجماعية لا تزال تقود صربيا".

ثالثاً، سبق أن أعلنت الإدارة الأميركية تحقيق نجاح فوري في هذا الملف، لذا أغفلت تراجع صربيا عن التزاماتها، وبعد أيام على توقيع الاتفاق في المكتب البيضاوي، بدأ المسؤولون الصرب يتراجعون عن القرار الذي يمنع استعمال معدات الجيل الخامس من "التجار غير الموثوق بهم"، في إشارةٍ إلى شركة "هواوي"، وبعد أسبوعَين، افتتحت رئيسة الوزراء آنا برنابك مركزاً خاصاً بتطوير ابتكارات "هواوي" في بلغراد، فأشادت بالشركة واعتبرتها "من أكبر وأفضل شركاء البلد" في مجال "التحولات الرقمية في الاقتصاد" المحلي ضمن شبكة الجيل الخامس وسواها. في غضون ذلك، تتابع الصين توسيع علاقاتها مع صربيا التي تُعتبر "مرساة" بكين في أوروبا.

وَعَد فوتشيتش السفير الروسي في صربيا هذا الشهر باستكمال خط أنابيب غاز خلال هذه السنة، تزامناً مع تنفيذ مشاريع أخرى في مجال الطاقة، مما يخالف التزام البيت الأبيض بتنويع إمدادات الطاقة بعيداً عن روسيا، وبعدما تلقى فوتشيتش توبيخاً مهيناً بسبب رضوخه للبيت الأبيض، اضطر لتلاوة لائحة من الوعود الخانعة للكرملين، بما في ذلك التزام صربيا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو لأي سبب، وعدم تغيير نظرتها إلى قصف الناتو لصربيا في عام 1999، وعدم فرض عقوبات على روسيا، ومتابعة سياساتها الودّية والمستقلة تجاه روسيا رغم انتقادات الاتحاد الأوروبي.

باختصار، يشير تفاخر ترامب بـ"الإنجاز الكبير" إلى تفكك العلاقات بين صربيا وكوسوفو، ولا شيء يثبت أن الدبلوماسية الأميركية بذلت أي جهد لكبح علاقات صربيا المتنامية والمتعددة الأوجه مع الصين أو وقف اتكالها القديم على روسيا. في غضون ذلك، تشعر موسكو وبلغراد ببهجة عارمة بعد صدور نتائج الانتخابات في مونتينيغرو في نهاية أغسطس الماضي، فقد حققت القوى الموالية لروسيا وصربيا والمعارِضة لحلف الناتو فوزاً انتخابياً هائلاً.

مجدداً، تواجه الإدارة الأميركية موقفاً محرجاً بعدما ركزت على "الدبلوماسية التجارية" بدل التنبه إلى عمليات التخريب الحاصلة من موسكو إلى بلغراد، وتجاهل المسؤولون تقرير وزارة الخارجية في يونيو الماضي، حيث يعبّر المحللون وحكومة مونتينيغرو عن مخاوفهم من إطلاق "حملة منسّقة من التضليل والأكاذيب والاستفزازات، علماً أن بعضها يشتق من بلدان ثالثة ويهدف إلى بث الانقسامات العرقية والقومية وتأجيج الصراع عن طريق الاحتجاجات".

بفضل حملة تضليل مختلطة قارنها بعض المحللين بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016، أثّر الصرب والروس بقوة على خطابات ما قبل الانتخابات ورسّخوا الانقسامات بين الناخبين في مونتينيغرو، وفي حين أغرقت الجيوش الإلكترونية الصربية مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار الكاذبة، روّجت وسائل الإعلام الروسية للحملة التي تطلقها الكنيسة الصربية الأرثوذكسية ضد القانون الجديد الصادر عن حكومة مونتينيغرو بشأن الأملاك الدينية.

غداة الانتخابات، استهدف القوميون الصرب الفائزون في مونتينيغرو مسلمي البوسنة، فانتشرت كتابات جدارية تحتفل بالإبادة الجماعية في "سربرنيتسا"، وفي الوقت نفسه استمر تدهور العلاقات العرقية في البوسنة المجاورة، وأدرك الزعيم الصربي البوسني ميلوراد دوديك، وهو عميل لموسكو وبلغراد معاً، عدم اهتمام الولايات المتحدة بالموضوع، فصعّد تهديده بهندسة انفصال الكيان الصربي، إذ لم يتلقَ دوديك أي تحذير بعد موقفه الاستفزازي القائل إن الاعتراف بكوسوفو يتطلب الاعتراف بجمهورية صربسكا أيضاً.

وفي حين تواجه دول البلقان أزمة تهجير لأن مواطنيها يتابعون الهرب بحثاً عن فرصٍ أفضل، ليس الوقت مناسباً للمبالغة في المقاربة الاقتصادية مقابل تجاهل الاضطرابات السياسية التي تجازف بتجديد الصراع، وسيكون الصراع العرقي آخر مسمار في نعش الإصلاح الاقتصادي والاستثمارات الخارجية وخلق فرص العمل.

كما تزداد التعقيدات بسبب بند "الشنغن المُصغّر" في اتفاق ترامب الاقتصادي الذي يهدف إلى تقليص الحواجز لتسريع حركة الناس والسلع والخدمات والرساميل، حيث تشعر البلدان الصغيرة التي تسجّل عجزاً تجارياً كبيراً، مثل كوسوفو، بالقلق من ترسيخ هيمنة الاقتصاد الصربي الأكبر حجماً.

قدّم الاتحاد الأوروبي للتو 9 مليارات يورو (10.6 مليارات دولار) لتطوير اقتصادات جنوب شرق أوروبا وتحديثها والربط بينها، ولا يقضي دور واشنطن بالتفوق على الاتحاد الأوروبي أو إنفاق المال أكثر منه عبر مشاريع برّاقة وغير مُنسّقة قد تُهدر أموال دافعي الضرائب في نهاية المطاف، بل يتمحور الدور الأميركي الأساسي حول تأمين سلطات ومبادئ وخطط طارئة تضمن ألا تبتعد بروكسل ولا عواصم البلقان، مثل صوفيا وبلغراد، عن المهمة الشاقة المرتبطة بحل الخلافات السياسية في المنطقة.

* إدواردر ب. جوزيف