قُتِل مدرّس فرنسي بطريقة مروعة منذ أيام وحملت هذه الجريمة معالم اعتداءات سابقة نفذها التنظيم الإرهابي الإسلامي الدموي "داعش"، حيث يُعتبر هذا الرجل هدفاً رمزياً بدهياً في الغرب: كان صامويل باتي معلّماً محترماً لمادتَي التاريخ والجغرافيا وقد تعرّض للانتقادات من أحد الأهالي المسلمين ومُحرِّض إسلامي آخر بعدما عرض رسوماً كاريكاتيرية ساخرة للنبي محمد كجزءٍ من حصته السنوية عن حرية التعبير، وكانت ردة الفعل على ما فعله وحشية، فطُعِن المدرّس بحركة سريعة وقُطِع رأسه بسكين جزار في أحد الشوارع بالقرب من مدرسة في شمال باريس، وكُشِف النقاب لاحقاً عن مراسلات إلكترونية حصلت بين الجاني، وهو رجل مقيم في فرنسا ومولود في روسيا ومن أصل شيشاني، وناشط في مدينة إدلب السورية.

لكن وفق الصحيفة الفرنسية "لو باريسيان"، يقول المحققون إن القاتل تواصل مع جماعة إرهابية إسلامية أخرى في سورية اسمها "هيئة تحرير الشام"، ولم يكن الاعتداء الذي نفذه الشاب البالغ من العمر 18 عاماً (قُتِل لاحقاً خلال مواجهة مع الشرطة) مستوحى من "داعش" أو من تخطيطه.

Ad

وقعت هذه الجريمة بعد سنة تقريباً على انهيار تنظيم "الدولة الإسلامية" في سورية، فقد قُتِل زعيم التنظيم الوحشي أبو بكر البغدادي في 26 أكتوبر 2019 خلال غارة للقوات الأميركية الخاصة، لكن المحللين الأمنيين وخبراء الاستخبارات يتكلمون عن مؤشرات تنذر بعودة "داعش" إلى الحياة اليوم بقيادة خَلَف البغدادي المعروف على نطاق واسع بإجرامه الوحشي.

تأسس "داعش" في عام 1999، لكنه لم يجذب أنظار العالم قبل عام 2014، حين أصبح خَلَفاً لتنظيم "القاعدة" وتحوّل إلى أبرز قوة دافعة للإرهاب الإسلامي بعد مقتل أسامة بن لادن. كانت استراتيجية "داعش" مختلفة عن أسلوب بن لادن لأن هذا التنظيم يطمح إلى إقامة "دولة خلافة" عبر غزو أراضٍ واسعة في الشرق الأوسط تزامناً مع نشر الإرهاب في العالم عبر شن اعتداءات تشبه هجوم نوفمبر 2015 على قاعة "باتاكلان" للحفلات وعدد من المقاهي في باريس، مما أسفر عن مقتل 130 شخصاً، ونُفّذت أيضاً اعتداءات أصغر حجماً في أماكن أخرى من الغرب.

واجه "داعش" أعداءه في المنطقة، لا سيما القوات الشيعية المدعومة من إيران، وتعامل أيضاً مع التقدم الغربي ضده، فبدا في أسوأ حالاته عند مقتل البغدادي، لكن بعد مرور ثلاثة أسابيع فقط، تم اختيار خَلَفه أمير محمد سعيد المولى.

يُعرَف المولى أيضاً باسم أبو عمر التركماني أو "المدمّر"، وقد سمح للتنظيم بإعادة ترسيخ مكانته في سورية والعراق، وهو يخطط لاعتداءات جريئة متزايدة وفق تقرير نشرته الأمم المتحدة في يناير.

وُلِد المولى في عام 1976 في بلدة تلعفر العراقية، على بُعد 70 كلم من الموصل، وتُعتبر بلدته الأم معقلاً للتركمان، لذا ساد ارتباك معيّن حول أصوله العرقية لأن أتباع "داعش" كانوا يهتمون بأن يكون قائدهم من أصل عربي.

يحمل المولى شهادة في الشريعة الإسلامية من جامعة الموصل، على غرار سلفه، وكان ضابطاً سابقاً في جيش صدام حسين مثل عدد كبير من زملائه.

بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، انضم إلى حركة التمرد السنية التي قتلت أعداداً كبيرة من العراقيين وسعت إلى إضعاف الغزو، ثم اعتقلته القوات الأميركية طوال خمس سنوات في سجن بوكا حيث التقى بالبغدادي.

لا أحد يشكك بوحشية القائد الجديد: ذكرت الصحيفة الإماراتية "أخبار الآن" أن المولى أصدر أحكاماً تقضي بإبادة الأقلية اليزيدية في العراق وحَشَد رجاله لقتل واغتصاب الرجال والنساء والأولاد اليزيديين بناءً على استراتيجية واضحة من التطهير العرقي، كما أنه استهدف الأقلية المسيحية في العراق أيضاً.

بعد فقدان الأراضي وجذب أنظار العالم وصولاً إلى مقتل البغدادي، استلم الزعيم الجديد مهمة إعادة إحياء "داعش" خلال فترة حاسمة من تاريخ التنظيم. يقول الخبراء إن "داعش" يشبه كائن الهيدرا الأسطوري: قد نقطع أحد رؤوسه لكن سرعان ما ينمو رأس آخر مكانه!

في مقابلة مع الصحيفة الفرنسية "أويست فرانس" في السنة الماضية، صرّح الباحث العراقي الخبير بشؤون "الدولة الإسلامية"، هشام الهاشمي، بأن "داعش" قادر على إعادة بناء نفسه: "ترتكز عملية التجدّد هذه على ثلاث مراحل: جمع الموارد (جنود وأسلحة)، إنشاء وتحضير نظام إرهابي، السيطرة على الأراضي التي يستطيع فيها التنظيم فرض سياسته لإنشاء اقتصاد قادر على دعمه".

تجدر الإشارة إلى أن الهاشمي قُتِل في 6 يوليو الماضي بالقرب من منزله في بغداد على يد مسلّحَين مجهولَين، وقد تم استهدافه على الأرجح بسبب تركيزه على "الدولة الإسلامية".

بقيت الاعتداءات المستوحاة من "داعش" في الغرب نادرة، لكن يبدو أن التنظيم بدأ يعزز وجوده في إفريقيا والشرق الأوسط. حصلت هذه التطورات رغم الادعاءات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هزم "داعش" بالكامل.

ذكرت وكالة "الأناضول" التركية أن "الدولة الإسلامية" تستغل الفراغ الأمني في صحراء الأنبار الشاسعة التي تفصل بين سورية والعراق لإنشاء خلايا نائمة تتألف من مقاتلين هربوا بعد بدء الانسحاب عام 2017، بانتظار أن يتمكن التنظيم من الاستيلاء على أراضٍ جديدة.

وفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة في يناير الماضي، بدأ "داعش" بعد خسارة أراضيه يرسّخ وجوده مجدداً في سورية والعراق، فأطلق أعداداً متزايدة من الاعتداءات الجريئة، ويذكر هذا التقرير أيضاً أن "الدولة الإسلامية" لا تزال تملك 100 مليون دولار، وهذا ما يفسّر جزئياً قوة تحمّلها.

بدأ الغرب يدرك هذا التهديد المتجدّد تدريجاً، ففي شهر يونيو ضاعفت الولايات المتحدة المكافأة التي تعرضها مقابل العثور على زعيم "داعش" الجديد فوصلت قيمتها إلى 10 ملايين دولار، وبعد شهرَين، قُتِل ستة عاملين فرنسيين في المجال الإنساني في النيجر بسبب كمين نَصَبه مقاتلو "داعش"، لكن بدأ إيقاع الاعتداءات الإجمالية يتصاعد تدريجياً في أماكن أخرى.

تلوم القاهرة "داعش" مثلاً على الاعتداءات المتكررة ضد القوات العسكرية المصرية في سيناء، وفي بداية أغسطس أطلق مقاتلون يحملون علم "داعش" الأسود هجوماً على ميناء "موسيمبوا دا برايا" الاستراتيجي في شمال موزمبيق واستولوا على البلدة كلها خلال أقل من أسبوع وأعلنوها عاصمتهم الجديدة.

على صعيد آخر، استهدف هجوم يوم السبت في كابول حياً يشمل عدداً كبيراً من الأقلية الشيعية في العاصمة الأفغانية: إنه جزء من استراتيجية "داعش" القديمة لاستهداف المسلمين غير السُّنة.

منذ سنة، كان عدد من المحللين مقتنعاً بأن مقتل البغدادي يعني أن عمليات "داعش" وأفكاره الإيديولوجية أصبحت في أيامها الأخيرة. اضطر التنظيم أيضاً للتعامل مع جماعات سنّية معادية، بمن في ذلك مقاتلو "هيئة تحرير الشام" المُشْتَبه في تورطهم في مقتل المدرّس الفرنسي، لكن تبقى طموحات "الدولة الإسلامية" أهم سلاح تملكه في نهاية المطاف، فهي تعطي المناصرين المتطرفين السُّنة في كل مكان رؤية عن دولة الخلافة الجديدة تمهيداً لفرض سيطرة كاملة على العالم الإسلامي، وفي غضون ذلك، يجب ألا يكتفي الزعيم الجديد أمير محمد سعيد المولى بلقب "المُدمّر"، بل يُفترض أن يُحدد ما يستطيع ترميمه.

● مراد كامل