أطلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف موقفاً مدوياً يوم الثلاثاء، فحذّر من احتمال أن توقف روسيا جميع أشكال الحوار مع الاتحاد الأوروبي، فلم يقدّم لافروف أي تفسير لأقسى موقف علني ضد الاتحاد الأوروبي في مسيرته كلها، ربما أراد بذلك أن يردّ على المحادثات المطوّلة التي عقدها حديثاً مع الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل، فقد كان واضحاً أن تلك المحادثات لم تكن إيجابية على جميع المستويات.

من المتوقع أن يردّ الاتحاد الأوروبي على ذلك التصريح باستياء عارم، لكن يشتق تعليق لافروف في الأصل من عملية بدأت قبل وقتٍ طويل من نشوء الأزمة الراهنة، حين بدت العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي تفاؤلية وواعدة.

Ad

نشأت الدولة الروسية المعاصرة والاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه تقريباً (في أواخر ديسمبر 1991 وفي فبراير 1992 على التوالي)، وسرعان ما حدّد الطرفان ركيزة علاقتهما المشتركة، فوقّعا على "اتفاقية الشراكة والتعاون" في عام 1994 وصادقا عليها في عام 1997، هذه الاتفاقية أعطت علاقتهما الثنائية طابعاً "استراتيجياً" في مرحلة معينة.

لكن تختلف هذه الرؤية بشدة عن شعار "أوروبا الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك" الذي طرحه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في عام 1989 للإشارة إلى وطن أوروبي مشترك يفتقر عملياً إلى أي وثيقة أو اتفاقية لدعمه.

كانت الشراكة بين روسيا والاتحاد الأوروبي مبنية على فكرة التكامل، فلم تعرض بروكسل على روسيا يوماً العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، لكنها اقترحت عليها ضمانات عامة وغير واضحة مفادها أن روسيا ستؤدي دوراً محورياً في "أوروبا الكبرى" التي كانت حينها قيد البناء.

لكن يبدو أن كل طرف فهم تلك الشراكة بطريقة مختلفة، لقد اتفق الفريقان حينها على ضرورة أن ترتكز جميع المسائل، من بنية الدولة إلى التنظيمات الاقتصادية، على الإطار القانوني والتنظيمي للاتحاد الأوروبي باعتباره المعيار الأعلى، وفي الحالة المثلى، كان يُفترض أن يتبنى كل بلد منتسب إلى هذه المساحة الأوروبية القواعد والتنظيمات الأوروبية قبل أن يصبح عضواً رسمياً في الاتحاد الأوروبي (ينال البلد هذه الميزة أحياناً بسبب حجمه حصراً) أو عضواً مشارِكاً مثل روسيا وأوكرانيا. كان متوقعاً أن يعدّل كل قادم جديد قوانينه وتنظيماته كي تتماشى مع المعايير الأوروبية.

كانت هذه الرؤية العامة تختلف في جوهرها عن فكرة غورباتشوف حول "أوروبا الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك". لم يقدم هذا الزعيم السوفياتي أي تفاصيل بشأن الوطن الأوروبي الشامل، لكن من الواضح أنه توقّع نشوء شراكة بين جهات متساوية.

كان الزعيم السوفياتي يتطلع أيضاً إلى تقارب متبادل حيث يقدّم كل طرف (الاتحاد السوفياتي، المجتمع الأوروبي، الغرب ككل) أقوى مزاياه تمهيداً لاندماج جميع الأطراف ضمن كيان واحد لا يشمل أجزاءً متشابهة. بعبارة أخرى، كانت هذه الخطة خيالية وغير قابلة للتنفيذ.

لم يبذل الرئيس بوريس يلتسن أكبر الجهود الرامية إلى انتساب روسيا إلى المساحة الأوروبية المشتركة بناءً على المبادئ الأوروبية خلال التسعينيات، بل الرئيس فلاديمير بوتين خلال ولايته الأولى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

اضطر يلتسن لتجاوز الأزمة الروسية الداخلية قبل إطلاق أي محادثات حول الاندماج مع أوروبا، وبعد عام 2000، حين استرجعت الدولة وجهازها استقرارهما وملأت العائدات النفطية خزائن الحكومة، بدأ بوتين يبحث بجدّية عن فرصة لتنفيذ الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وزيادة التقارب بينهما، واستمرّ هذا الوضع بين عامَي 2001 و2006.

شهر العسل انتهى!

كانت القدرات الروسية قد تنامت بدرجة كبيرة بحلول هذه المرحلة، فزادت توقعاتها حول الدور الذي ستضطلع به في شراكتها مع الاتحاد الأوروبي.

رفضت روسيا خيار الانصياع الكامل للمعايير الأوروبية باعتباره توقعاً غير مشروع وفضّلت أن ترتكز أي شراكة مرتقبة على شروط خاصة إذا لم تكن متساوية بالكامل، لكن لم يعتبر الاتحاد الأوروبي روسيا حالة خاصة يوماً، بل إن إعادة النظر بقواعده كانت لتنتهك مبادئ التكامل الأوروبي برأيه.

لهذا السبب، بدأت فكرة نشوء شراكة استراتيجية ومتكاملة بين روسيا والاتحاد الأوروبي تتلاشى في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن حصل هذا التلاشي بوتيرة تدريجية جداً لأن السياسات الروسية الداخلية والخارجية بدأت تتغير بطريقة جذرية ولأن الاتحاد الأوروبي واجه أزمة غير متوقعة بلغت ذروتها بعد عام 2010.

بحلول هذه المرحلة، لم يتغير اتفاق الشراكة الذي نشأ في بداية التسعينيات (ولم يتغير حتى اليوم)، لكن اختلف واقع العلاقة بين روسيا وأوروبا كثيراً مقارنةً بتركيبتها الأصلية، وسرعان ما برز التباعد المتزايد بين أهداف الطرفين وأفكارهما الذاتية.

اتّضح هذا الوضع عبر الفرق الكبير بين التصريحات المعلنة خلال القمة الأخيرة بين روسيا والاتحاد الأوروبي في بروكسل في أواخر يناير 2014 والحقائق على أرض الواقع.

في غضون ذلك، احتدمت الاحتجاجات في العاصمة الأوكرانية كييف، قبل ثلاثة أسابيع فقط على هرب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش ووصول سلطات جديدة إلى الحُكم، وكانت العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي حينها الأسوأ على الإطلاق (أيّد الطرفان معسكرات متناحرة في كييف).

وقف الرئيس بوتين ورئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروسو أمام الكاميرات وكررا الشعارات نفسها التي يردّدانها منذ سنوات، أو حتى عقود، حول الشراكة الثنائية والمساحة المشتركة وخرائط الطريق ومسائل أخرى، لكن خانتهما تعابير وجهَيهما وكشفت عن حقيقة ما يفكران به: لن يحصل شيء مما يتكلمان عنه على أرض الواقع.

لكن لم يملك الطرفان أي خيارات أخرى، واتضحت مظاهر العجز التام في هذه العملية في بداية التسعينيات، مما دفعهما إلى تكرار الدعوات المألوفة نفسها إلى إقامة شراكة وثيقة مستقبلاً.

ثم وقعت الأحداث التي غيّرت قواعد اللعبة في أوكرانيا، فضلاً عن حصول تطورات أخرى في الوقت نفسه، وسرعان ما تحوّل إطار العمل الذي حدد مسار العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي لوقتٍ طويل إلى مفارقة تاريخية بين ليلة وضحاها، فمهّد الوضع المستجد لاحتدام العدائية والمنافسة بين الطرفين، مع ذلك، تابع الفريقان ظاهرياً دعم الشراكة والحوار والظروف العامة التي كانت سائدة قبل 25 سنة.

بالعودة إلى الزمن الحاضر، ها هو وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعترف بطريقة غير مباشرة بحجم التدهور الذي وصلت إليه العلاقة الثنائية، لقد أعلن بكل بساطة ما يعرفه الجميع أصلاً، أي أن إطار العمل القديم الذي كان يوجّه العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي لم يعد قائماً.

لا يعني ذلك انتهاء جميع أنواع العلاقات بين الطرفين، بل انتهاء تلك العلاقة بالشكل الذي اتخذته سابقاً.

ثمة حاجة مُلحّة إلى وضع إطار عمل جديد اليوم، لكنه لن يتحدد على الأرجح قبل مرور وقتٍ طويل، كما أن الإطار الذي تفضّله روسيا لرسم علاقاتها مع أوروبا لن يتبلور بشكلٍ ملموس للأسباب الآنف ذكرها: تبدو الظروف الراهنة غير مؤاتية بكل بساطة.

لا أحد يتوقع طبعاً أن يسقط ستار حديدي جديد بين روسيا والاتحاد الأوروبي من السماء، فلا تزال علاقاتهما الإنسانية والاقتصادية المتبادلة قوية جداً، رغم بعض الأضرار الناجمة عن العقوبات، ولم تتأثر الروابط الثقافية أو حتى السياسية بين الطرفين أيضاً، لكن تبقى هذه العلاقات نفعية بطبيعتها، ولا يدّعي الطرفان فيها وجود أي أهداف مشتركة، وتتلاشى أهمية هذه الروابط مقارنةً بعلاقات موسكو الثنائية مع بلدان أوروبية فردية. بدأت روسيا وأوروبا تتحولان إلى مجرّد جارتَين مهذبتَين لا تتبادلان الاهتمام لكنهما مضطرتان للتواصل بسبب تقاربهما الجغرافي بكل بساطة.

على روسيا أن تزيد اهتمامها بجارتها الصينية الأساسية في الوقت الراهن، ولا شك أن خلاف روسيا مع الغرب أثّر على هذا التوجه المستجد نحو الشرق، لكنّ موسكو تحرص على زيادة تركيزها على الصين المجاورة أكثر من المعتاد بسبب الحدود الروسية الصينية الطويلة وتحوّل الصين سريعاً إلى قوة عالمية مُهيمِنة أو واحدة من ركيزتَي نظام العالم الجديد على الأقل.

لكنّ العامل المحوري الذي سيغيّر طبيعة العلاقات بين روسيا وأوروبا يتعلق على الأرجح بتوجّه ميزان القوى العالمي عموماً نحو آسيا في مختلف الظروف، ونتيجةً لذلك، لم يعد الاهتمام الذي أولته روسيا لأوروبا والغرب في آخر 300 سنة يتماشى مع الواقع العالمي اليوم، فلا تستطيع روسيا إذاً أن تتحمل كلفة التعامل مع آسيا وكأنها مجرّد جهة ثانوية، مع أنها تقوم بذلك في مناسبات كثيرة حتى الآن، إذا تمسّكت موسكو بهذا التوجه، فقد تجد نفسها فجأةً في مواجهة سياسة توسعية زاحفة من الشرق.

في مطلق الأحوال، لم يعد النموذج السابق للعلاقات القائمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي فاعلاً بأي شكل وقد بدأ الطرفان يعترفان بهذا الواقع علناً اليوم بطريقة أو بأخرى.

*فيودور لوكيانوف