بيلاروسيا تحتاج إلى حل متوازن بين روسيا والغرب

خلال الشهرَين الأخيرَين، تصدرت بيلاروسيا عناوين الأخبار في الغرب، فغداة الانتخابات الرئاسية المزورة والاحتجاجات الحاشدة التي تَلَتها، توقّع المحللون في أنحاء أوروبا الغربية والولايات المتحدة سقوط الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في مرحلة مبكرة، علماً أنه يحمل سمعة سيئة ويُعتبر "آخر دكتاتور في أوروبا"، لكنه تمكّن من التمسك بالسلطة بفضل الدعم السياسي الروسي الذي حظي به والوعود بتلقي مساعدات أمنية، وبدل اندلاع ثورة في البلد، تحوّل الوضع إلى مواجهة مطوّلة.

في ظل استمرار الاضطرابات، يجب أن تجد البلدان الغربية طريقة فاعلة لإحراز تقدّم ديمقراطي في بيلاروسيا من دون افتعال ردة فعل عكسية من روسيا. قد يُمهّد أي إخفاق من جانب الولايات المتحدة أو دول أخرى لتحويل البلد إلى منطقة من المواجهات الجيوسياسية. هذه النتيجة قد تُضِرّ بالمصالح الغربية والأمن الأوروبي والشعب البيلاروسي.

لتجنب هذا السيناريو يجب أن تبتكر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سياسات مبنية على تقييم واضح لنقاط ضعف الحركة الاحتجاجية ونقاط قوة موسكو، إذ يُفترض أن تتوصل هذه البلدان إلى حل وسط لتسريع رحيل لوكاشينكو والاعتراف بالروابط الوثيقة بين روسيا وبيلاروسيا، وفي الوقت نفسه يجب أن تعمل تدريجاً على تطبيع العلاقات لخلق ظروف مؤاتية وترسيخ التقدم الديمقراطي مستقبلاً، ويجب أن تأخذ هذه السياسة بالاعتبار غضب المحتجين من وضع المراوحة في بيلاروسيا، وتمنع تحوّل البلد إلى منطقة تحتدم فيها المنافسة بين القوى العظمى، وتُضعِف مخاطر التدخل الروسي الواسع الذي يعوق مسار الإصلاح.

حقائق ميدانية

في ظل تصاعد الحركة الاحتجاجية في بيلاروسيا على مر شهر أغسطس الماضي، استنتج عدد كبير من المحللين أن أيام لوكاشينكو أصبحت معدودة، لكن كانت تلك التوقعات مبكرة، ورغم ضخامة التظاهرات، تفتقر المعارضة إلى القوة اللازمة لدفع لوكاشينكو إلى التنحي أو الموافقة على إجراء انتخابات جديدة. هربت منافِسته الأساسية سفيتلانا تيخانوفسكايا إلى ليتوانيا: هي مبتدئة في عالم السياسة ولم تطلق حملتها الانتخابية إلا بعد اعتقال زوجها الذي أعلن ترشيحه قبلها، وسرعان ما تحوّلت إلى رمز للاحتجاجات لكنها تفتقر إلى المهارات المناسبة لقيادة هذه التحركات كلها.

اعترفت تيخانوفسكايا بحدود دورها وأنشأت مجلس تنسيق كان يهدف في البداية إلى تسهيل انتقال السلطة من لوكاشينكو سلمياً، لكن الحكومة ردّت سريعاً واعتبرت المجلس غير شرعي وفتحت قضايا جنائية ضد المنتسبين إليه، وأصبح معظم أعضائه البارزين اليوم قيد الاعتقال أو هربوا من بيلاروسيا، وفشل في تحويل دعم العمال في المصانع المملوكة للدولة إلى إضراب وطني شامل قد يُضعِف قاعدة ناخبي لوكاشينكو الأساسية، كذلك خفّض المجلس مطالبه: بدل أن يدعو لوكاشينكو إلى التنحي، بات يتكلم اليوم بأسلوب مبهم حول ضرورة "تنظيم مسار واضح للتغلب على الأزمة السياسية وضمان التماسك الاجتماعي".

في المقابل، أصبح لوكاشينكو أضعف من أي وقت مضى لكنه نجح رغم ذلك في الحفاظ على الدعم الشعبي في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة ووسط الأجيال الأكبر سناً في بيلاروسيا، ونتيجةً لذلك، وصل البلد إلى طريق مسدود وما من حل في الأفق حتى الآن.

حقيقة الرهان الروسي

طلب لوكاشينكو مساعدة أمنية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين بلغت الاحتجاجات ذروتها، فأبدى بوتين استعداده للتجاوب معه: يعتبر الزعيم الروسي "الثورات الملوّنة" التي أسقطت الحكومات الموالية للكرملين في أماكن أخرى من المنطقة بمثابة اعتداء غربي على نطاق النفوذ الروسي، لذا أوضح أنه سيبذل قصارى جهده لإبقاء بيلاروسيا ضمن المدار الروسي لأن موسكو تعتبر هذا البلد عازلاً استراتيجياً في وجه الخصوم الغربيين، وللتشديد على هذه النقطة استقبل بوتين لوكاشينكو علناً في "سوتشي"، ووافق على تقديم قرض بقيمة مليار ونصف دولار لتخفيف أعباء الديون في "مينسك"، وأعلن أنه أنشأ "نوعاً من الشرطة الاحتياطية" لاستعمالها في حال خرج الوضع في بيلاروسيا عن السيطرة. كذلك، أوضح بوتين في أحاديثه العلنية والخاصة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن موسكو لن تتحمل أي تدخّل غربي في بيلاروسيا.

مع ذلك، لا يمكن اعتبار دعم موسكو للوكاشينكو غير مشروط. لطالما كان الزعيم البيلاروسي شريكاً صعباً وقد أعاق مراراً المحاولات الروسية لتوثيق الروابط الاقتصادية والسياسية، فقبل الانتخابات مباشرةً، اعتقل لوكاشينكو أكثر من 30 مرتزقاً روسياً يعملون في شركة عسكرية خاصة ومقرّبة من الكرملين بتهمة التخطيط لانقلاب (لكنه عاد وغيّر رأيه سريعاً وأطلق سراحهم مع بدء الاحتجاجات).

خيارات الغرب

نظراً إلى ضعف المعارضة في بيلاروسيا وحاجة روسيا إلى إبقاء البلد في مدارها، ستضطر دول مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة لاتخاذ مسار سياسي شائك. تحتاج هذه البلدان إلى الضغط على حكومة بيلاروسيا لوقف أعمال العنف والتفاوض حول إنهاء الاضطرابات، لكن يُفترض أن تتجنب أي صراع مفتوح مع موسكو في الوقت نفسه.

تستطيع هذه الدول أن تبدأ بالاعتراف بطبيعة الاحتجاجات، حيث تهتم المعارضة البيلاروسية بالشؤون الداخلية، لا الجيوسياسية، ولا تريد أن تصبح رهينة في أي صراع ضد روسيا، ويدرك المحتجون جيداً أن روسيا جهة أساسية بالنسبة إلى بلدهم اقتصادياً وسياسياً.

يجب أن يحترم الداعمون الغربيون المحتملون تلك الروابط ويمنعوا تحويل البلد إلى ساحة معركة، ويمكنهم أن يبدؤوا بتوضيح موقفهم أمام الجميع، بما في ذلك حكومة بيلاروسيا والمعارضة وموسكو، فيؤكدون اهتمامهم بتجنب أي شكل إضافي من العنف، بغض النظر عن تطور الوضع السياسي المحلي.

لكن لن تكون الدعوة إلى إيجاد حل سلمي للأزمة كافية، بل يجب أن تحاول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تسهيل هذه النتيجة عبر عقد التزام دبلوماسي هادئ ومدروس مع موسكو لأن الكرملين لا يزال يتحكم بمصير لوكاشينكو، كذلك، يُفترض أن يخففوا العقوبات مقابل إبرام تسوية لإنهاء انتهاكات حقوق الإنسان وتفعيل المحاسبة السياسية. تسمح هذه الخطوة للغرب بتوسيع دوره الاقتصادي وفتح المجال أمام إحراز تقدم ديمقراطي من دون تأجيج المخاوف الروسية من احتمال استيلاء الغرب على السلطة.

لكن رغم ضرورة الامتناع عن تأجيج الصراع، يجب أن تتواصل الدول الغربية مع بيلاروسيا مباشرةً من دون أن تتوقع حصول هذه العملية عن طريق الكرملين بكل بساطة. حين اندلعت الأزمة الأخيرة، كان مجلس الشيوخ الأميركي بصدد المصادقة على تعيين سفير جديد في بيلاروسيا. يظن عدد من أعضاء مجلس الشيوخ اليوم أن ملء هذا المنصب في ظل الظروف الراهنة قد يشرّع حملة القمع التي يطلقها لوكاشينكو، لكنّ ترك ذلك المنصب شاغراً يوجّه رسالة أسوأ بكثير إلى المجتمع البيلاروسي مفادها أن الولايات المتحدة تهتم بمناقشة مسائل البلد مع موسكو حصراً. يجب أن تُعيّن واشنطن سفيراً لها في بيلاروسيا في أسرع وقت ممكن ويُفترض أن يتواصل السفير الجديد بشكلٍ متوازن مع الحكومة الرسمية والمعارضة في آن.

في النهاية، يبقى الحفاظ على روابط وثيقة بين بيلاروسيا وموسكو بعد عهد لوكاشينكو، تزامناً مع تحسين علاقة البلد بالغرب، نتيجة ممكنة للأزمة الراهنة على المدى المتوسط، ورغم أن الكثيرين في الغرب قد لا يحبذون هذا الوضع لكنه بديل إيجابي أو أفضل خيار محتمل في ظل الظروف القائمة. قد تنجح أي سياسة مدروسة في تحويل تلك النتيجة إلى واقع ملموس، لكن إذا حاول الغرب فرض حل عدائي، فقد تصبح العواقب كارثية بالنسبة إلى الشعب البيلاروسي الشجاع في المقام الأول.

● يوهيني بريهيرمان وتوماس غراهام