فض دور الانعقاد أسقط الحصانة القضائية دون البرلمانية (2-2)
تناولت في مقالي الأحد قبل الماضي، وتحت هذا العنوان (1- 2) الحصانتين والفارق بينهما، فالأولى مقيدة والضرورة تقدر بقدرها، فتسقط بين أدوار الانعقاد، وبعد فض دور الانعقاد الأخير، على عكس الحصانة البرلمانية التي تعتبر حصانة مطلقة فيما تقرره من عدم مؤاخذة العضو، على آرائه وأفكاره داخل المجلس ولجانه، فلا تسقط إلا بعد انقضاء الفصل التشريعي، وتبسط مثلا حمايتها على الدكتور الرويعي وزملائه في لجنة التحقيق البرلمانية، في القضية المعروفة بـ"الماليزي" حتى تنتهي من مهمتها أو ينتهي الفصل التشريعي أيهما أسبق.وتناولت فيما تناولته فيما يخص الحصانة القضائية، أنها لا تشمل ضبط العضو في حالة تلبس، إعمالا للمادة (111) التي قررت هذه الحصانة، حيث استثنت منها حال الجرم المشهود، وأن هذا الاستثناء ينطبق من باب أولى على الأحكام القضائية الباتة والنهائية، التي تصدر بإدانة العضو، وقد تستتبع إسقاط عضويته، إذا كان الحكم صادرا في جناية أو في جريمة مخلة بالشرف والأمانة.
الضرورة تقدر بقدرهاوقد تناولنا في عجز المقال السابق، أن الأصل العام هو المساواة أمام القانون وأمام القضاء بين الناس كافة، إعمالا لأحكام المادة (29) من الدستور، فلا يجوز التوسع في تفسيرها أو تطبيقها، فهي لا تمنح في كل الدساتير التي تأخذ بها، لأعضاء البرلمان كامتياز خاص أو لتحويلهم إلى طبقة مميزة في الدولة، بل تمنح لهم حماية للممارسة البرلمانية، فهي حق الأمة مصدر السلطات، أو كما يقول الأصوليون في حق الشرع، لهذا لا يجوز للنائب النزول عنها إلا بإذن البرلمان، كما لا يجوز الإفراط أو التفريط في رفعها، لما يترتب على هذا أو ذاك من ضرر يصيب إما الممارسة الديمقراطية السليمة أو يخل بحماية العدالة، ولما يترتب على التفريط فيها من ضرر يصيب الشرعية.وترتيبا على ذلك فإنه لا يجوز عند النظر في طلب رفع الحصانة الخضوع لاعتبارات المواءمة السياسية أو لتصنيف الأعضاء حسب انتمائهم السياسي لحزب أو لتيار معين، كما لا يجوز للبرلمان الخوض في البحث في توافر أو عدم توافر الأدلة لما ينطوي عليه ذلك من إخلال بمبدأ الفصل بين السلطات والتدخل في أعمال القضاء. ويسجل للمجالس النيابية المصرية قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، أن هذه المجالس لم تخضع قرارات البت في رفع الحصانة البرلمانية للانتماءات الحزبية، فقد رفعت الحصانة عن أعضاء في الحزب الحاكم، الذي يملك الأغلبية البرلمانية، للالتزام الكامل والدقيق لهذه المجالس بالمفهوم الصحيح للحصانة القضائية والحرص على عدم الإخلال بالمساواة أمام القضاء.إلا أن ما يؤخذ على هذه التطبيقات أنها أفرطت في رفع الحصانة في بعض الأحيان عندما رفعت الحصانة عن النائب المرحوم عبد الستار بك الباسل لتحصيل غرامة مخالفة سيارة قدرها خمسون قرشاً، لم يكن يعلم بها النائب، وعن المرحوم أحمد بك القرشي عضو مجلس الشيوخ لأن سائق سيارته لم يكن يحمل أثناء قيادته رخصة القيادة، ومن الطريف أن كليهما كان وفدياً وأن حزب "الوفد" هو الذي كان يملك الأغلبية البرلمانية في المجلسين.ومن المقرر في النظم الدستورية والبرلمانية، أنه ليس من حق البرلمان أن يناقش في توافر الأدلة أو عدم توافرها من الوجهة القضائية، إنما يقتصر البحث فيما إذا كانت الدعوى كيدية يقصد بها منع النائب من أداء واجبه في المجلس من عدمه.لذلك فقد تم رفع الحصانة القضائية من مجلس العموم البريطاني عن النائب محمد سرور، وهو أول عضو مسلم في المجلس لاتهامه بتحريض المواطنين على تزوير البطاقات الانتخابية، وهو اتهام ثبتت بعد ذلك كيديته لمنع النائب المسلم من ممارسة عمله البرلماني بحكم أصدرته المحكمة العليا بأدنبره ببراءته بما نسب إليه بعد تراجع الشهود عن أقوالهم وعدم تعرفهم عليه في المحكمة، وهو ما لم يكن مجلس العموم يستطيع التحقق منه إلا بالبحث في توافر الأدلة أو عدمها، والممتنع عليه أصلا.الأحكام الشرعية للحصانة القضائيةولئن كانت الحصانة القضائية تخالف الأحكام الشرعية كما قلنا في عجز المقال السابق التي تساوي بين الرعية في المثول أمام القضاء، ولا تفرق بين شريف ووضيع، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): "لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها"، إلا أن جانبا من الفقه الإسلامي، يرى العمل بالمصالح المرسلة في هذه الأمور التي لم يرد بشأنها، نص القرآن أو السنّة من أن الحصانة القضائية للنواب تقوم على منع الحرج أو الضرر الذي تسببه الدعاوى الكيدية التي يمكن أن تقام ضد النائب لمنعه من أداء واجبه النيابي نحو أمته، وهو ما يقتضي حماية هذه المصلحة للضرورة، والقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، بشرط أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يكون بقاء هذه الحصانة بالقدر اللازم لدفع هذا الضرر أو الخطر الذي تتعرض له الممارسة البرلمانية.