في بلد الإنسانية
لا يهم إن كان السجين أميركياً أو هندياً، أو غيره من خلق الله، القضية هي احترام حقوق الإنسان وكرامته، ومراعاة "الحد الأدنى من قواعد العدالة". وضعتُ العبارة الأخيرة بين "قوسين"، فهذه كانت سبباً ومبرراً للتدخل الأميركي تاريخياً بعدة دول في أميركا اللاتينية وغيرها، متى انتهكت حقوق الإنسان الأميركي تحديداً، كما حددها الفقه الغربي، ومعيار"الحد الأدنى من العدالة" يستند إلى ثقافتهم وقوانينهم، التي تعد من القانون الدولي، لا إلى ثقافة الدولة المتهمة بانتهاك هذا الحد، فهذا خط أحمر عندهم، وليس لمفهوم سيادة الدولة وقوانينها أن يتخطاه. بمانشيت بارز في جريدة النيويورك تايمز عدد 28 أكتوبر الماضي -وهذه، بالمناسبة، هي الجريدة الأكبر والأقوى والأكثر تأثيراً بالولايات المتحدة، وهي المقربة للحزب الديمقراطي، الذي ينتمي إليه الرئيس المنتخب (تقريباً) "بايدن"- كتب بالمانشيت: "نيكاداموس أكوستا مواطن أميركي سُجن وعُذب في الكويت". وتمدد الخبر التحليلي ليذكر أسماء مواطنين أميركيين في السجون الكويتية، التفتت عنهم إدارة ترامب؛ بسبب لونهم أو لكونهم من الأقليات الأميركية. "أكوستا" كان جندياً عاملاً في معسكر عريفجان، وترك الخدمة ليصبح مقاولاً لحساب القوات الأميركية، وجد نفسه مقبوضاً عليه لأنه كان حائزاً لنبتة الماريغوانا، والمباحث كانت تصر على أنه كان يتاجر بها، وتريد معرفة التاجر الممول، ولم تكن الحكاية أكثر من وشاية ضده اقتنعت بها محكمة الاستئناف وأفرجت عنه. لكن بعد أن تم ضربه وتهديده من الأمن هنا.
الجريدة الأميركية تعرضت في خبرها، الذي استغرق إعداده أكثر من سنتين ونصف السنة، لوضع السجناء الأميركيين في السجون الكويتية، وشمل التحليل الصحافي عدة قضايا عن هؤلاء السجناء. لم يكن مقالها مجرد خطوط عريضة ملونة عن قضايا بائتة نمطية مملة لمسؤولين رسميين، محصورة عادة في كلمات سمجة من شاكلة وصل وغادر واستقبل وودع، وغير ذلك من أخبار اجتماعية تافهة لا يراد بها غير "رزة" صاحب الشأن وتلميع شخصه في ثقافة البؤس السطحية، التي تتصدر الإعلام الكويتي والعربي بصورة مجملة. مانشيت النيويورك تايمز السابق كان موجهاً بصورة رئيسية لإدارة ترامب الراحلة، إلا أنه لم يخل من عبارات وفقرات طويلة تذكر المسؤولين هنا بدور الأميركان في تحرير الدولة عام 91، وتنبههم إلى أن الإجراءات الكويتية تنقض المعايير الدولية لحقوق الإنسان.أيضاً، قبل فترة بسيطة، غرّد المحامي دوخي الحصبان بصورة لشخص تغيرت معالم وجهه، بعد أن شبع ضرباً من قوات أمنية! ماذا يعتقد هؤلاء بأنفسهم، كممثلين للسلطة، وبأي حق يفتلون عضلاتهم الأمنية على البشر؟! لا يهم، كما ذكرت في بداية المقال، إن كان المتهم أو السجين ينتمي لجنسية معينة تهتم به دولته أو لا تكترث له، مثل العديد من الدول الفقيرة المصدرة للعمالة هنا. ولا يصح أن نكترث لسمعة الكويت بالخارج، رياءً وعلى خلاف الحقيقة، على نحو ما يغتم بها المسؤولون، ليكن همنا إنسانياً ببلد نزعم أنه بلد الإنسانية... لنبحث عن هذه الإنسانية، لا في الأضابير الرسمية فقط، بل في ثقافة هذا الشعب وسلوكه اليومي، فنحن نشهد وضعاً مزرياً من التعالي والغطرسة نحو الغير، التهَبَ كأمراضٍ وعلل وتفشَّى مع وباء كورونا، وإن كانت جرثومة التكبر مستوطنة في جوف الوطن، منذ لحظة ولادة النفط وتزايد الثراء، وكانت تلك صورة داكنة لوباء الريع الأكثر والأخطر من كل الأمراض الاجتماعية، لنقر بأن عالم الرفاه زائل حتماً وقريباً... فماذا سيبقى لنا بعد ذلك؟!