يشعر الديمقراطيون والعديد من الجمهوريين بقدر عظيم من الإغراء لرفض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبارها انحرافا شاذا، وتماما كما قد يحاول الجمهوريون إلقاء اللوم عن الانتهاكات العديدة التي ارتُـكِـبَـت خلال السنوات الأربع الأخيرة على ترامب، على أمل أن يصبح دورهم التمكيني في طي النسيان سريعا، ربما يرغب الديمقراطيون في استعراض احترامهم للأعراف الديمقراطية، من خلال الامتناع بكل كرم وسماحة عن مقاضاة الماضي. إذا كان الأمر كذلك، ففي حال فوز جو بايدن من غير المرجح أن يُـحَـاسَـب ترامب وحكومته على سجلهم الفاضح الشائن في الفساد، والقسوة، وانتهاك المبادئ الدستورية الأساسية.

بعيدا عن الحسابات السياسية، زعم كثير من المراقبين- من المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق أندرو يانغ إلى حقوقيين ومؤرخين بارزين- أن الدكتاتوريات التافهة فقط هي التي تلاحق خصومها المهزومين، وبسبب دوافع واضحة للغاية تخصه، ارتأى المدعي العام الأميركي بِـل بار أن "الفائزين السياسيين الذين يحاكمون طقوسيا الخاسرين السياسيين هم أيضا لا يشكلون المادة الحقيقية للديمقراطية الناضجة". بيد أن هذه التعميمات شديدة التسرع، فلا ينبغي الرد على شعار ترامب الموجه ضد هيلاري كلينتون في عام 2016، "احبسوها"، بشعار "احبسوه"؛ لكن شعار "سامح وتجاوز" ليس البديل الوحيد.

Ad

يتعين على الأميركيين أن يميزوا بين ثلاث قضايا: جرائم ربما ارتكبها ترامب قبل تولي المنصب؛ ومزاعم فساد وقسوة ارتكبها هو وأقرانه أثناء توليه منصبه؛ وسلوكيات كشفت عن نقاط ضعف بنيوية تعيب النظام السياسي الأميركي في عموم الأمر، وكل واحدة من هذه القضايا تتطلب استجابة مختلفة بعض الشيء.

تاريخيا، اتسمت تحولات في العديد من البلدان الأخرى بعيدا عن الاستبداد- أو التعافي من تدهور ديمقراطي- بالاستعداد لترك أهل السلطة السابقين دون عقاب، وكما تلاحظ العالِـمة السياسية إيريكا فرانتز، فإن "59 في المئة من القادة المستبدين الذين أطيح بهم من السلطة واصلوا ببساطة ممارسة حياتهم الطبيعية". مع ذلك، في الحالات حيث لم تتحرك الديمقراطيات الجديدة أو المستعادة لمحاكمة المسؤولين السابقين، فإنها كانت غالبا تشكل لجان الحقيقة، التي تقدم العفو في مقابل معلومات صادقة واعترافات من قِـبَـل مرتكبي الجرائم. وحظي هذا النهج بأكبر قدر من الشهرة في دولة جنوب إفريقيا بعد حكم الفصل العنصري.

تتمثل خصوصية الوضع الحالي في الولايات المتحدة في أن ترامب يخضع بالفعل للتحقيق في جرائم محتملة لا ترتبط برئاسته، والآن، يحقق المدعي العام في مانهاتن والمدعي العام في نيويورك في ممارسات قامت بها منظمة ترامب تتمثل في أشكال عديدة من الاحتيال. على الرغم من كونها غير سياسية ظاهريا، فإن ممارسات ترامب في مجال الأعمال وألقت بظلالها على المحسوبية الوقحة والفساد في رئاسته، وحتى لو لم ينجح في تحويل الولايات المتحدة بالكامل إلى دولة مافيا على غرار المجر في عهد فيكتور أوربان، فإن هذا ليس المقصود إلى حد كبير.

علاوة على ذلك، إذا أُسـقِـطَـت التحقيقات في ممارسات منظمة ترامب ببساطة بمجرد مغادرته لمنصبه، فسيبدو الاتهام بأنها كانت مجرد مكائد سياسية، وكأن له ما يبرره، وخصوصا عندما نضع في الاعتبار أن مسؤولي إنفاذ القانون المعنيين تصادف أنهم ديمقراطيون. من ناحية أخرى، إذا أسفرت التحقيقات عن حبس رئيس سابق، فربما يقرر مؤيدو ترامب المدججون بالسلاح إنفاذ القانون بأيديهم وفقا لمنظورهم؛ وهذا يعني في أقل تقدير تعميق الانقسامات السياسية التي تبتلي البلاد.

مع وضع هذه المخاطر في الحسبان، لا يوجد سبب من حيث المبدأ يجعل من غير الممكن معاقبة زعيم سياسي على النحو اللائق على جريمة ارتكبها، فالعديد من القادة عوقبوا، بل عاد بعضهم إلى الحياة السياسية بعد ذلك، فقد أُجـبِـر رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني على أداء الخدمة المجتمعية بعد إدانته بتهمة الاحتيال الضريبي (استدعى تقدمه في العمر عقوبة أكثر تساهلا). وهو اليوم عضو في البرلمان الأوروبي، مما يجعل من الصعب على أي شخص الادعاء بأن القضاة الليبراليين أرادوا ببساطة إسكات الفارس، لكن المقصود من إنفاذ القانون هو إرسال إشارة واضحة مفادها أن استراتيجية برلسكوني في الدخول إلى السياسة من أجل الحصول على الحصانة وتشتيت الانتباه عن تعاملاته التجارية المشبوهة لن يتحول إلى سابقة.

ثم هناك مسألة سجل ترامب الفعلي في المنصب، فالواقع أن المرء يستطيع أن يجد وفرة من السياسات المرفوضة بشدة، لكن من الخطأ أن نتخلى عما أسماه الرئيس توماس جيفرسون، بعد أن خلف خصمه اللدود جون أدامز في عام 1801: "السلامة التي يمكن بها التسامح مع الخطأ في الرأي، حيث يُـتـرَك العقل حرا لمحاربته".

لا يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن الفساد والقسوة المنهجية التي أظهرتها إدارة ترامب في الاستجابة لأزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19)، وفي فصل الأطفال عن آبائهم على الحدود، كما اقترح أستاذ القانون مارك توشنت من جامعة هارفارد، لابد من إنشاء لجنة تحقيق لتقصي الحقائق بشأن السياسات والأفعال التي تجاوزت مسألة انعدام الكفاءة إلى عالم من الأحقاد ذات الدوافع السياسية. ومن الأهمية بمكان أن نعمل على تأسيس سجل لائق لهذه الأحداث، ربما من خلال تقديم التساهل واللين في مقابل التصريح بالحقيقة، ولابد أن يساعد ذلك في التفكير في الإصلاحات البنيوية، مما يجعل الفساد بمقابل والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان أقل ترجيحا على الأقل.

أخيرا، خرق ترامب الكثير من الأعراف الرئاسية غير الرسمية، من الوقائع التافهة نسبيا- مثل سب الناس على تويتر- إلى الوقائع الخطيرة مثل إخفاء إقراراته الضريبية، وكما زعم العديد من الحقوقيين الأميركيين، فإن الاستجابة الحكيمة تتمثل في إنشاء لجنة منفصلة لدراسة نقاط الضعف البنيوية التي تعيب الرئاسة. ربما يجد مثل هذا التحقيق أن العديد من الأعراف غير الرسمية- من الشفافية المالية إلى العلاقات مع وزارة العدل- تحتاج إلى التدوين في هيئة قوانين، ولن يكون هذا النهج من قبيل الانتقام، فبعد فضيحة وترغيت، استن الكونغرس الأميركي سلسلة من القوانين الأخلاقية المهمة، والتي مال الحزبان إلى قبولها.

لا ينبغي لهذا النهج الثلاثي الشعب أن يصرف الانتباه عن مهام الحكم الأكثر إلحاحا، فعلى الرغم من أنه قد يتطلب إنفاق بعض رأس المال السياسي، فإن التكاليف المترتبة على التقاعس عن العمل أو "المضي قدما" على وجه السرعة قد تكون أعلى كثيرا، كما كانت الحال بعد عفو غيرالد فورد عن ريتشارد نيكسون (الذي لم يعترف قَـط بأي ذنب)، والتساهل الذي أظهره بعد فضيحة إيران-كونترا، واستخدام إدارة جورج دبليو بوش المكثف للتعذيب في ملاحقة أهداف "حربها العالمية على الإرهاب".

من المؤكد أن عددا كبيرا من الجمهوريين ربما يحاربون جهود البحث عن الحقيقة بكل ما أوتوا من قوة، لكن آخرين ربما يستخدمون تحقيقا عاما يركز على تحسين عمل المؤسسات الأميركية لإبعاد أنفسهم عن ترامب وإرثه، والحق أنهم أظهروا أنفسهم بالفعل على أنهم انتهازيون.

*جان فيرنر مولر

* أستاذ في جامعة برنستون، وزميل معهد برلين للدراسات المتقدمة، وهو مؤلف الكتاب المرتقب "الديمقراطية تحكم".