كما أن للماء السر الأعظم في إرواء الزرع وإنعاش روحه ودفعه للثمر، فإن للكلمة الحلوة سراً في بثّ السرور والثقة والعافية في الآخر، وأياً كان هذا الآخر. لذا أقف ملياً، وباستغراب كبير، أمام إصرار المؤسسة الرسمية، وحتى بعض المؤسسات الأهلية، في انتباههم وتكريمهم للإنسان، المفكر والمبدع، فقط بعد موته!أذكر قبل سنوات كنت في زيارة لأحد الأصدقاء الصحافيين، ويومها وجدته ومن حوله يجهّزون ملفاً كبيراً عن شخصية مبدعة. وحين استفسرته عن سبب ذلك، أخبرني أن هذه الشخصية أدخلت المستشفى بسبب عارض صحي مفاجئ، وأن الأخبار المتسربة تقول إن حالتها خطيرة، وقد تفارق الحياة، مما يستلزم تجهيز الملفات لنشرها بعد الوفاة! هذا الموقف جعلني أراقب الحالة الصحية لتلك الشخصية، والتي تعافت وخرجت من المستشفى، وعادت لممارسة نشاطها المعتاد، وهنا اتصلت بصديقي أستفسر منه عن مصير تلك الملفات، فرد عليَّ: "ستكون جاهزة للنشر بعد الموت!".
يومها دخلت في نقاش طويل مع صديقي، وأن هذه الشخصية الرائعة أحوج ما تكون لقراءة تلك الملفات المعدّة عنها "الآن" أثناء حياتها لتسعد بها، وتكون حافزاً لمزيد من العطاء، وليس بعد موتها، لكنه ظل يحاجج بأن "الأصول المرعيّة"، وطبيعة العمل الصحافي والإعلامي تتطلب ذلك!ما زالت تلك الشخصية، والحمد لله، تحيا بيننا، وما زالت تلك المادة الصحافية والإعلامية البائسة حبيسة الأدراج، وهذا ما يدفعني للقول إن الإنسان، أي إنسان، وفي أي لحظة من عمره، وفي أي موقف، يبقى دائماً أرضاً جافة عطشة لرشة مطر، ولكلمة حلوة، ترسم البسمة والبهجة على محياها! نعم، للكلمة الحلوة، المشجعة، الإيجابية سحرٌ عميق وكبير في النفس البشرية، لذا ليس من الحكمة أن نوفّر كلماتنا ومشاعرنا لأحبابنا ومفكرينا ومبدعينا، ونرسلها ملء الفضاء الواقعي والافتراضي بعد مماتهم! فتكريم الموتى، وحتى عبر أبنائهم لا صلة له بهم، ولا يقدم ولا يؤخر في عطائهم، وأبداً هو أعجز من أن يلامس مشاعرهم في غفوتهم الأبدية بالتراب والظلمة!تسمية الشوارع، والمطارات، والأبراج، والكليات، والمسارح، والمكتبات، وقاعات الأفراح، والمستشفيات، والمستوصفات، وكثير من مرافق الحياة الحية، هي حكر على الأموات! ولو طمحت شخصية كبيرة ومبدعة في أي من مجالات الحياة في أن تُذكر أو يُسمَّى مرفق باسمها فليس أمامها إلا أن تموت وستحظى بما أرادت! وأي بؤس أبشع من هذا؟!عظيم الحديث النبوي القائل: "تَبسُّمك في وجه أخيك صدقة"، رواه الترمذي، وربما كانت الكلمة الطيبة كذلك، وكلمة التشجيع كذلك، وكلمة شد العضد كذلك، وبما يصلنا إلى الاحتفال والاحتفاء بعطاءات المفكرين والمبدعين، أثناء عيشهم، وفي كل مناحي الحياة.طبيعة الحياة البشرية، بأن عطاء الإنسان يتناسب وعمره، وأنه متى ما كبر، وقدّم أفضل وأجمل ما عنده من علم وفكر وفن، فإن أجمل ما يمكن أن يكافأ به هو الاحتفاء به، وإشعاره بأنه قدم لوطنه وأمته ما عجز عنه الآخر، وأن عطاءه كان مؤثّراً، ولذا سيبقى حاضراً في الوجدان، ويبقى قادراً على التجدد وبناء وصلٍ مع الأجيال الجديدة.أتمنى أن يُعاد النظر في قضية تكريم من يستحق في حياته وليس بعدها، وأن تبادر المؤسسات المالية الكبيرة والمقتدرة على المساهمة في ذلك. فعطاء الإنسان موجّه لبلده وأبناء شعبه، دون تفريق بين خاص وعام، لذا قد تكون مشاركة القطاع الخاص، وتحت أي تسمية، بتكريم من يستحقون هي بادرة طال انتظارها، فما أجمل أن يدخل شخص إلى مرفق يحمل اسمه، وكم هو سروره واعتزازه أمام نفسه وأهله وأصدقائه ومتابعيه بأنه لاقى تكريماً يليق به، وأنه ذاق حلاوة هذا التكريم وطعمه في حياته، ولم يُرش على تربة قبره بعد مماته!
توابل - ثقافات
الكلمة الحلوة!
11-11-2020