بايدن وسياسته الخارجية
هناك مقولة تتردد عادة بأن السياسة الخارجية الأميركية لا تتغير، بل هي ثابتة. تلك المقولة، دون بحث في التاريخ القديم، لا تصمد بكاملها أمام تغيرات العقدين الماضيين؛ من جورج دبليو بوش إلى باراك أوباما ثم دونالد ترامب، حيث تنقلنا إلى تداخل في مواقف شخصية أو فئوية أكثر منها استراتيجية، والأمثلة على ذلك كثيرة، من معتقل غوانتنامو إلى الحرب على العراق إلى الملف النووي الإيراني وغيرها.سيسعى الرئيس جو بايدن إلى ردم فجوات سلفه، على المستوى الكوني، لا الشرق الأوسط فحسب؛ فهناك ملفات بعضها عاجل في أوروبا، وآسيا، وأميركا اللاتينية، وإفريقيا، وبلدان بعينها كروسيا والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران والهند وغيرها، التي كان لتعامل الرئيس المنصرف معها، مواقف ذاتية أكثر منها استراتيجية. ففي آسيا مثلاً، وبعيداً عن حالة الصراع المعلن، والذي يبدو استراتيجياً ضد الصين، تقام سياسات في المجال التجاري والاستثماري تتناقض معها، كفيتنام وتايلاند والانسحاب من التجمعات الاقتصادية الآسيوية. ولا ننسى وصفه دول أميركا اللاتينية بأقذع الألفاظ كشعوب، وانتقاداته الحادة لأوروبا، ومطالبته لألمانيا بدفع تكاليف القوات الأميركية في ألمانيا، وغير ذلك كثير.بالنسبة إلى منطقتنا، هناك توجس من الدول، التي استثمرت في ترامب، من تغيُّر جذري، في الاتجاه المعاكس، إلا أن المتوقع أن تكون الأمور أكثر استقراراً وتدرجاً، انطلاقاً من المنافسة لا الصراع، وربما تفرضها الخبرة غير المتوافرة لترامب.
الواضح هو أن الملفات الداخلية أكثر إشغالاً للرئيس الجديد، كوباء كورونا، والذي تصادف الإعلان عن لقاحه بعد فوزه، ما أثار شكوكاً في التوقيت. كما أن لديه الحالة الاقتصادية الصعبة، والتي يطرح البعض نمط "العهد الجديد" للرئيس روزفلت بعد الكساد العالمي، حلاً لها، وإن كان ذلك مستبعداً لأسباب نظرية وعملية. وبالإضافة إلى حالة الاحتقان الحادة في المجتمع الأميركي، والتي أظهرت نتائجها الانتخابات الرئاسية، سيخوض الرئيس الجديد معركة استعادة الثقة بمؤسسة الرئاسة.عالمياً، سيسعى بايدن لاستعادة المبادرة في السياسة الخارجية، كالعودة إلى اتفاق باريس للتغير المناخي، وإلى منظمة الصحة العالمية، وغيرها من هيئات الأمم المتحدة، التي أدى غيابها إلى ضعف تأثيرها.أما الشرق الأوسط، فمن المتوقع أن يبدأ بايدن في تحسين العلاقات مع الفلسطينيين، في قضايا سياسات محددة مثل إعادة العلاقات، وإعادة الدعم المالي الإنساني، وحل الدولتين، مما قد يشطب صفقة القرن من الدفاتر، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن. إلا أنه ليس من المتوقع أن يتراجع عن خطوات مثل نقل السفارة الأميركية للقدس وغيرها، فبايدن داعم لإسرائيل، وكان قد أعلن تأييده لأفعال ترامب. ومن المتوقع أن يعيد فتح ملفات مثل سورية وليبيا والعراق والحرب في اليمن، والأزمة الخليجية، وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.قد لا يتشابه بايدن مع ترامب في شيء، ولكنه اختلاف على رؤيتهما لمصلحة أميركا، وليس على مصلحة غيرهم، والتي قد تتعارض مع دول غيرها حيناً، وقد تتوافق حيناً آخر، ونحن لسنا استثناءً من ذلك. المبالغة في الحماس لهذا أو ذاك غير مفيدة للصحة النفسية.