في 14 أكتوبر لَفَت النائب المعارِض أوزغور أوزيل انتباه البرلمان التركي إلى أداء غير متوقّع من قاضٍ مرموق، وفي الأشهر الأخيرة، أصدر القاضي أكين غورليك أحكاماً حول مجموعة من القضايا الرفيعة المستوى وغير المترابطة، فرفض طلب استئناف ضد اعتقال صلاح الدين دميرتاش، وهو زعيم حزب سابق ومُوالٍ للأكراد، كذلك، صادق على قرار مشين حول مصادرة ممتلكات الصحافي المنفي جان دوندار، وأكد رفع الحصانة التشريعية عن النائب المعارِض أنيس بربر أوغلو.اتّهم أوزيل الحكومة بالتلاعب علناً بالسلك القضائي عبر تعيين غورليك في محاكم مختلفة كي يتمكن من إصدار أحكام تتماشى مع توجّه الحزب الحاكم، فقال: "أنتم تحرّكون جلاد العدالة هذا وكأنه مقصلة متنقلة"!
لا داعي لنقول إن هذه الأحكام كلها تُعبّر عن القرارات التي يفضّلها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقد أوضح هذا الأخير حقيقة ما يحصل في جميع المناسبات، فهو يفرض نفوذاً مباشراً على الهيئة التي تُعيّن أو تُقيل أعضاء السلطة القضائية التي أصبحت تحت سيطرته السياسية بعد تمرير تعديلات دستورية في العامَين 2010 و2017. الآن وقد رسّخ إردوغان سطوته على الدولة، يدرك جميع القضاة أن مسيرتهم المهنية ستصبح على المحك إذا خالفوا توجّه الحزب الحاكم.استناداً إلى بيانات وزارة العدل، تشير تقديرات وكالة "رويترز" إلى أن خبرة 45% من 21 ألف قاضٍ ونائب عام في تركيا تقتصر على ثلاث سنوات كحد أقصى. عمد إردوغان طوال سنوات إلى تطهير النظام من مسؤولين يعتبرهم غير أوفياء له. تسارعت هذه العملية بعد محاولة الانقلاب العسكري في يوليو 2016. وبحجّة تطهير الأجهزة من المتآمرين ومخططي الانقلابات، أقال إردوغان وحكومته أكثر من 4 آلاف قاضٍ ونائب عام خلال السنة اللاحقة، واتُّهِم معظمهم بارتباطهم برجل الدين الغامض فتح الله غولن، العقل المدبّر المزعوم لمحاولة الانقلاب، وبحلول المرحلة الراهنة، وصلت حملة التطهير التي أطلقها إردوغان إلى أعلى مستويات النظام القضائي. في الفترة الأخيرة، ردّ وزير الداخلية سليمان صويلو بغضب على قرار المحكمة الذي يلغي منع التظاهرات على الطرقات السريعة. فأخبر أعضاء المحكمة بأنهم يستطيعون ركوب دراجاتهم النارية للتوجه إلى العمل من الآن فصاعداً، ثم كتب قاضٍ دستوري صوّت لصالح قرار المحكمة تغريدة تشمل البند الدستوري الذي يضمن استقلالية المحكمة الكاملة وأرفق التغريدة بصورة له على دراجة نارية. بعد هذه المشاحنات، صدر بيان صريح من دولت بهجلي، زعيم حزبٍ قومي متطرف أصبح اليوم شريكاً لـ"حزب العدالة والتنمية" الحاكم الذي يرأسه إردوغان، فاقترح بهجلي "إعادة هيكلة" المحكمة الدستورية، مما دفع المقربين من إردوغان إلى التكلم عن خيار إغلاق تلك المحكمة بالكامل.كانت الرسالة واضحة، ففي أي نظام ديمقراطي حقيقي، تكون استقلالية أعلى منصب قضائي مضمونة، لكن يعيش الأتراك اليوم في عهد إردوغان الذي أعلن عام 2016 ما يلي: "أنا لا أطيع قرار المحكمة الدستورية ولا أحترمه". لقد أدلى بهذا التصريح بعدما ألغت المحكمة قرار الاعتقال غير الشرعي بحق الصحافيَين دوندار وأردام غول. بعد مرور أربع سنوات، بدأ إردوغان وأتباعه يعبّرون صراحةً عن ازدرائهم بمكانة المحكمة العليا المحلية، فاستخفوا بالنظام القضائي كله إلا إذا كان يلبّي رغبات الرئيس.يُعتبر مصير عثمان كافالا خير مثال على ذلك، فهو رجل أعمال معروف بنشاطاته المدنية وأعماله الخيرية وانتقاده لإردوغان، هو يقبع في السجن منذ عام 2017، لكن لم تصدر بحقه بعد لائحة اتهام واضحة. لا يزال كافالا في السجن رغم صدور قرار يعارض اعتقاله من المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، حتى أن محكمة تركية أصدرت حُكْماً آخر يقضي بإطلاق سراحه.بعدما أصدرت تلك المحكمة قراراً لصالحه في 18 فبراير انتظر أحباؤه إطلاق سراحه خارج السجن لكن أصدرت النيابة العامة بكل بساطة اتهامات جديدة ضده، وفي النهاية أوضح إردوغان قراره المفضّل حين تكلم عن حصول "مناورات" لإطلاق سراحه، وحتى أن القاضي الذي أصدر قرار إخلاء سبيل كافالا خضع للتحقيق.في عهد إردوغان، يمكن اعتبار آلية العدالة التركية مشلولة بكل وضوح، لكن تبقى سيطرة الرئيس على السلك القضائي عاملاً أساسياً أيضاً لتعزيز طموحه بالتحكم بالنظام السياسي كله والحفاظ على احتكاره للحقيقة. في كل محكمة تركية، تظهر العبارة نفسها على الجدار وراء مقعد القاضي: "العدل أساس الدولة"! إنها كلمات أتاتورك، الأب المؤسس لتركيا، والخليفة عمر بن الخطاب المعروف في التاريخ الإسلامي بنظامه القضائي المثالي، لكن في عهد إردوغان، تُكتَب عبارة مُعدّلة أخرى بأحرف غير مرئية: "القصر الرئاسي هو من يقرر مسار العدالة"!* «إيجه تيميلكوران»
مقالات
القضاة المحسوبون على إردوغان يستهزئون بالعدالة
11-11-2020