بدأ الحديث عن "المرض الهولندي" في صحيفة The Economist عام 1977 نسبة إلى حالة الكسل والتراخي الوظيفي التي أصابت الشعب الهولندي، بعد اكتشاف النفط والغاز في بحر الشمال، حيث جنح للترف والراحة وبدأ بالإنفاق الاستهلاكي، ولكن دفع ضريبة ذلك، بعد أن أفاق على حقيقة نضوب الآبار التي استنزفت.فالمرض الهولندي يصيب كلَّ بلد تتوافر فيه ثرواتٌ طبيعية، وتحدث فيه زيادة كبيرة في الإنفاق الممول بإيرادات النفط والغاز، وينتج عن ذلك مجموعة من الآثار السلبية، فيشهد ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار والأجور، وترتفع قيمة سعر صرف العملة المحلية، ويصبح مصيره الاقتصادي مرتبطًا بواردات ثرواته الريعية، وتقلّب أسعارها.
لقد أصاب المرض الهولندي الاقتصاد الكويتي بعد اكتشاف النفط، وكانت البداية عندما فشلت الحكومة في بناء قاعدة اقتصادية إنتاجية غير نفطية، تزامنا مع زيادة في الإنفاق الاستهلاكي المفرط من الواردات النفطية. ولعل ما حدث خلال السنوات الأخيرة من انخفاض أسعار النفط من 100 دولار للبرميل، لتصل إلى 30 دولارا كان بمنزلة التحدي الأصعب التي واجهها الاقتصاد الكويتي، خصوصا في ظل عدم تبني سياسات التنوع الاقتصادي، حيث دفع انخفاض أسعار النفط الدول المنتجة إلى تخفيض كميات الإنتاج، وهذا الأمر الذي فاقم الأزمة الاقتصادية عالميا وزاد من عجز الموازنة، خصوصا في ظل محدودية مصادر الإيرادات في الكويت.وكما أصاب المرض الهولندي الاقتصاد الكويتي، فقد أصاب أيضا الاقتصاد النرويجي في البداية، ولكن النرويج تداركت الأمر بسرعة ولم تسمح لشعبها بالوصول إلى الثروة النفطية بدون عمل وجهد، كي لا يقضي على اقتصادها الإنتاجي غير النفطي وقدرتها التنافسية.هنا يبين البروفيسور لارسن (من جامعة أوسلو) أن النرويج استفادت كثيراً من أخطاء الدول النفطية الخليجية التي أصيبت بـ "المرض الهولندي"، لذلك أبعدت الثروة النفطية عن الناتج الوطني الإجمالي، وواصلت اعتمادها على الصناعات غير النفطية.في الواقع، لقد حار النرويجيون في كيفية التصرف بالثروة النفطية التي تدفقت، ففي عام 1985 انقسم البرلمان النرويجي! فريق يطالب بتوزيع الثروة على عامة الناس (زيادة علاوات ومنح مالية)، وفريق عارض الفكرة خوفاً من إصابة الشعب النرويجي بـ "المرض الهولندي"، واقترح توجيه عائدات النفط إلى صندوق سيادي لدعم الصناعة والإنتاج الوطني، ومن ثم يستفيد منه الشعب النرويجي والأجيال المتلاحقة. وقد رجحت كفة الفريق الثاني، فتم توجيه عائدات النفط إلى صندوق سيادي سمي آنذاك "الصندوق النفطي"، لكن اللافت للنظر أنه لا يسمح للحكومة النرويجية بسحب إلا جزء صغير من الصندوق، بما يعادل 20 بالمئة من ميزانية الحكومة سنويا، لتدعيم ميزانيتها إن احتاجت إلى ذلك. وظلت الحكومة النرويجية تعتمد بحد كبير على أموال دافعي الضرائب، كما يتم تحويل فوائض الميزانية إلى الصندوق النفطي.لكن الوضع في الكويت يختلف كليا، بكل أسف، فنحن لا نزال متكلين بشكل كبير على الحكومة، تصلنا أغلب اموال النفط دون العمل في قطاعات صناعية أو إنتاجية، وإنما تصلنا على شكل منح أو حوافز للبطالة المصطنعة، وحتى رواتب عمل في قطاعات حكومية غير منتجة. لذلك يجب على الحكومة إذا ما أرادت "علاجا كويتيا" للمرض الهولندي الذي أصاب الاقتصاد، أن تستفيد من التجربة النرويجية في تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية. إن شرط نجاح العلاج الكويتي هو أن تبادر الحكومة ومجلس الأمة معا في تشريع وتأسيس قواعد جديدة لقطاعات اقتصادية إنتاجية محلية مجزية بمشاركة القطاع الكويتي الخاص، كخطوة أولى للبدء في إبعاد إيرادات النفط عن الإنفاق والموازنة الحكومية. لديّ قناعة شخصية بأن مقومات هذه الانطلاقة متوافرة لدينا ماديا وبشريا، وما تنقصها سوى الإرادة والقناعة بأن مستقبل الكويت مرهون بهذا التحرك الضروري من اقتصاد المرض الهولندي إلى اقتصاد إنتاجي متنوع المصادر.*أكاديمي وباحث اقتصادي
مقالات
وجهة نظر: المرض الهولندي... والعلاج الكويتي!
13-11-2020