«البنية التحتية للديمقراطية»قد لا أضيف جديداً إذا قلت إن الديمقراطية ثقافة وفكر ووعي ونمط حياة، قبل أن تكون نظاماً سياسياً يقوم على مبدأ فصل السلطات ودستوراً يضمن الحقوق والحريات، ونظاماً انتخابياً وبرلماناً يصدر التشريعات ويراقب ويحاسب الحكومات، وقوانين تسمح بالأحزاب والمعارضات، وصحفاً ووسائط تواصل اجتماعي حرة، وقضاءً مستقلاً. إنها ثقافة يتشربها الطفل من محيطه الاجتماعي، وتربية ينشأ عليها، ومسلكيات تشكل نمط معيشة يعتاده.
ما ثقافة الديمقراطية؟هي مجموعة من القيم المدنية العليا تمثل نزوع الإنسان الفطري وتشوفه الدائم إلى الحرية والكرامة واستقلالية التفكير مثل: حرية المعتقد وحرية الضمير وحرية الفكر، وشرعية الاختلاف رأياً وفكراً ومعتقداً، ونسبية الحقائق المعرفية، وعدم تملك الحقيقة المطلقة، وعدم قدسية الرأي البشري، وقبول الآخر بغض النظر عن معتقده وطائفته وعرقه ولونه، واحترام حقه في التعبير عن رأيه، والإفصاح عنه في أي شأن: سياسياً أو فكرياً أو دينياً، وتسامح المكونات المجتمعية وقبول بعضهم لبعض (والتسامح هنا لا يحمل أي دلالة سلبية كما يتوهم بعض الباحثين الذين يفسرون التسامح بتنازل الأكثرية للأقلية عن بعض حقوقها، فهذا المعنى التراثي للتسامح أصبح اليوم مهجوراً في الأدبيات المعاصرة)، ومبدأ العدالة تشريعاً وقضاء، ومبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة أفراداً وجماعات في التمتع بالحقوق والحريات والامتيازات والالتزام بالواجبات، ومبدأ تكافؤ الفرص دون تمييز على أسس عرقية أو دينية أو مناطقية أو عشائرية، ومبدأ فصل السلطات وتعاونها، والتداول السلمي للسلطة، والحريات العامة بما فيها حريات التجمع وتكوين الجمعيات، وتشريع لا يفرق بين المواطنين، وقانون يسود الجميع، واحترام القضاء واستقلاله، والاستقلالية في الفكر والنقد والمعارضة، والإيمان بمنهج الحوار أسلوباً لحل الخلافات، ونبذ فكرة أعلوية الذكر على الأنثى تشريعاً وممارسة (وهي الفكرة التي ما زالت تحكم مجتمعات العرب وثقافتها وتشريعاتها).إن غرس هذه القيم الرفيعة في عقل ووجدان المواطن هو الشرط الضروري لصحة وسلامة المشاركة السياسية، فالديمقراطية في كلمة واحدة تصنع في عقول البشر أولاً.الديمقراطية لا تبدأ بالانتخابات، بل بإشاعة جو من الحريات في الفضاء المجتمعي: فكراً وتعبيراً وممارسة، بدءاً بالأندية الثقافية والاجتماعية، مروراً بجمعيات المجتمع المدني، والنقابات والاتحادات، وصولاً إلى الأحزاب السياسية.أين مجتمعات الخليج من ثقافة الديمقراطية؟الحاصل اليوم، أنه بالرغم من مظاهر التحديث والتعليم والتوسع العمراني التي عمت مجتمعات الخليج، وبالرغم من أن الخليج أكثر منطقة عربية منفتحة على العالم، فإن الانتماءات الأولية إلى الجماعة الدينية السياسية أو العشيرة أو الطائفة هي التي يراهن عليها المرشحون في الانتخابات للوصول للبرلمان، فمازالت للجماعة الدينية والقبيلة والطائفة الأيدي العليا في اللعبة الانتخابية، ولم تعمل الحكومات الخليجية على تذويب وصهر هذه الانتماءات في انتماء مشترك أعلى هو مفهوم المواطنة، بل عمدت هذه الحكومات غالباً إلى تبني سياسات ترسخ وتكرس هذه الانتماءات الأولية ظناً أن تلك هي الأسلوب الأسلم في استقرار وأمن وسلامة النظام السياسي الخليجي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن الدولة الخليجية ابتلعت مجتمعها، وهيمنت على نشاطه، وهمشت دور تنظيمات مجتمعها المدني وكل التنظيمات الأهلية الوسيطة، فأصبحت تابعة لا فاعلية لها في التثقيف السياسي للمواطنين. أخيراً: لا يمكن لثقافة الديمقراطية أن تتأسس في مجتمعات تغيب عنها تنظيمات المجتمع المدني، ولا يمكن أن تترسخ قيمها إذا ظل دورها مشلولاً ونشاطها مقيداً، تنظيمات المجتمع المدني هي البنية التحتية للديمقراطية، وهي شرايين المجتمع التي يجري فيها السائل الديمقراطي، والمصانع التي تنتج الثقافة والقيم الديمقراطية، والمدارس التي تربي المواطنين على المشاركة السياسية. الثقافة الديمقراطية هي في النهاية ثقافة مجتمع مدني صحي، وإذا لم يكن ثمة تنظيمات مجتمع مدني نشط وفاعل فلا ديمقراطية حقيقية، وإن وجدت الانتخابات الشكلية. وللحديث بقية.* كاتب قطري
مقالات
الخليج وثقافة الديمقراطية (1)
16-11-2020