«طبيب أرياف» تَكْشف العالم الخفي للقرية المصرية
رواية يتصارع فيها البشر والغجر والقوى الحاكمة
أصدرت دار الشروق رواية جديدة للأديب محمد المنسي قنديل، بعنوان "طبيب أرياف"، تدور أحداثها داخل إحدى القرى النائية بصعيد مصر في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، وتكشف الكثير من الأسرار التي كانت عادة تموت مع أصحابها داخل البيوت الطينية، أو على الأكثر تظل معلقة بين حبال الصدق والكذب في جلسات النميمة على هذه القرى.حول الرواية وأهم أطروحاتها الفكرية والفنية نبحر في عوالم الأديب الدكتور محمد المنسي قنديل.
جغرافية القرية
اختار المنسي قريته بعناية ودقة، سواء في أنواع بيوتها المتفاوتة بين الغني والفقر، أو في جغرافيتها حيث تبدو القرية كحلقة وصل بين عالم البداوة والتحضر، وبين السهل والجبل، فهي القرية المهملة التي يربطها بالمدينة "أتوبيس" متهالك، ولم يذكر المنسي اسمها واكتفى بذكر أنها تقع على بحر يوسف الذي يسمونه البحر المحيط - وهو فرع من النيل يمر عبر أكثر من محافظة بجنوب مصر.شقاء ومعاناة
ورغم أن الرواية ليست الأولى في كشف أسرار ومعاناة الريف المصري فإنها تتميز بقدرة كاتبها على اختيار الشخصيات، ومزج حكاياتهم وأسرارهم في إطار اجتماعى وسياسي عام، يهيمن عليه فكرة القمع والاستبداد، بأسلوب رشيق، ولغة شاعرية جذابة. يغوص المنسي في تفاصيل القرية من خلال بطله "علي" الطبيب الشاب الذي توفده وزارة الصحة للعمل بالوحدة الصحية المهملة بالقرية منذ سنين، ومنذ أول سطور الرواية نتعرف أحوال القرية البائسة، حيث يبدي علي استغرابه من "أن هذه القرية لم تدخلها الكهرباء، رغم أننا في نهاية حقبة السبعينيات"، كما يتأمل أحوال أهلها "ألمحهم يسيرون خارجين من بيوتهم الواطئة، متجهين للحقول، يسيرون في مجموعات متلاحقة رجالاً ونساء وخلفهم الأطفال والحيوانات، يحمل الرجال الفؤوس والمعاول، وتحمل النساء صرر الطعام، وتسير الحيوانات محنية الرؤوس، تدرك أن هناك يوماً من الشقاء الطويل في انتظارها، العجائز في آخر الصف، بعضهم يتوكأ على العصي ويجاهدون في السير كأنهم موتى تم بعثهم للتو، يسعون عند مولد الضوء كما فعلوا من آلاف السنين، طقس أسطوري يتم بجلال يليق بلحظة الخلق الأولى، أتأملهم مبهورا عاجزا عن الحركة، يسيرون مجموعة إثر أخرى في توافق مع حركة العالم، دورة مكملة لدورانه عبر تاريخ بعيد، لا أحد منهم يلتفت نحوي، لا أحد يراني، من خبرتي الحياتية أعرف أن نوعية الطعام الموجود في هذه الصرر، ليس أكثر من أرغفة الخبز ورؤوس اللفت المخلل، حتى قطع الجبن تبدو باهظة الثمن بالنسبة إليهم، كيف واصلوا الحياة عبر كل السنوات بهذا القدر الضئيل من الطعام".ولأن الوحدة الصحية الخالية من الأدوية إلا المسكنات ومحاليل المطهرات فقط، هى الوحيدة بالقرية، ولأنه الطبيب الوحيد، يأتي إليه كل أفراد القرية على اختلاف طبقاتهم، سواء من الفلاحين الذين ضيعهم الفقر والجهل والمرض، ونهشت أجسادهم البلهارسيا، أو أصحاب المهن، أو العمدة، حتى أبناء الليل والغجر.أسرار
ومن خلال توافد الشخصيات على الوحدة الصحية، يتعرف الطبيب معاناتهم، وتكشف معاناتهم أسرارهم، فها هو "الخياط" الذى يطلب منه إجراء عملية إجهاض لامرأة عشقها سرا وحملت منه دون زواج، ثم قتلها على يد إخوتها وذهابه مع المأمور لمعاينة الجثة، وتقيد القضية جريمة شرف، وها هي زوجة العمدة الشابة الصغيرة التي تزوجت تحت ذل الفاقة، تشكو للطبيب عجز العمدة عن الوفاء بمتطلباتها، وتنعزل حتى تمرض، وعيسى مريض الكبد الذي يحلم بالهجرة والعمل بدلا من البطالة واعتماده على مرتب زوجته الممرضة فرح، وابن الليل الذي يريد مخدرا لصداعه طوال الليل، والعرباوي الذي يتولى تهريب شباب القرية عبر الجبل، بطريقة غير شرعية للعمل بالخارج، فهم لا يمتلكون المال ولا الأوراق اللازمة للسفر الشرعي، والغجرية التي جلبها مأمور المركز للعلاج بعد التهجم عليها داخل مركز الشرطة، والأستاذ عمر مدرس اللغة العربية الذي يقع تحت المراقبة لآرائه السياسية، وأخيرا صناديق الانتخابات التي تشهد تزوير أصوات القرية لمصلحة الرئيس الجديد بإشراف المأمور.تعمد المنسي قنديل عدم ذكر اسم القرية طوال الرواية، ربما لقصد التعميم حيث تتشابه الأسرار والمعاناة في كل قري مصر. ولتؤكد الرواية حسبما جاء فى تقديمها، أنها تجربة جديدة في الكتابة حول العالم الخفي للريف المصري، ومحاولة اختراق القشرة البدائية التي تحيط به والتي تراكمت على مدى آلاف السنين، ويكتشف من خلالها أن القوانين البدائية ما زالت هي السائدة، وأن هناك سلطة مطلقة تعتمد عليها وتستمد قوتها من جذور بعيدة. هي رواية عن الحب والرغبة واليأس، عن قرية تختزل العالم، يتصارع فيها البشر والغجر والقوى الحاكمة، وتمتلئ ذاكرتها الخفية بطبقات الزمن المصري المتراكم.