حين اندلعت الحرب الشاملة بين أرمينيا وأذربيجان، برزت ثلاث نتائج محتملة: تحقيق انتصار عسكري حاسم، أو تجدّد الجهود الدبلوماسية متعددة الأطراف، أو أقلمة الصراع بتأثيرٍ من روسيا وتركيا.يعكس الاتفاق الأخير الذي وقّعته روسيا وأرمينيا وأذربيجان السيناريو الثالث، حيث تؤدي روسيا الدور الأبرز وتؤدي تركيا دوراً ثانوياً ولو أنه يبقى مؤثراً، تتألف هذه الوثيقة من تسع نقاط أساسية: قد لا تكون مجرّد اتفاق على وقف إطلاق النار لكنها
لا تصل إلى مستوى اتفاقيات السلام الحقيقية.من حق أذربيجان أن تحتفل بعدما استرجعت المقاطعات السبع في محيط "ناغورنو كاراباخ"، مما يعني أن آلاف المهجّرين قد يعودون إلى ديارهم، كما أنها ستحتفظ بالمناطق التي استرجعتها في آخر ستة أسابيع، بما في ذلك مدينة "شوشا" التي تتّسم بموقع استراتيجي مهم ولها رمزية كبرى. لكن كان لافتاً ألا يذكر الاتفاق شيئاً عن مكانة "ناغورنو كاراباخ" كركيزة للحوار المستمر، فأعطى رئيس أذربيجان إلهام علييف ثقلاً إضافياً لهذا الموضوع، حين أكد عدم حصول أي نقاش حول هذه المسألة في عهده.تلقى الأرمن من جهتهم أخبار الاتفاق بخليطٍ من الصدمة والغضب، فقد دخلت قوات حفظ السلام الروسية إلى "ناغورنو كاراباخ" خلال ساعات قليلة وفرضت أمراً واقعاً جديداً بسرعة فائقة، ولا تزال التفاصيل غير واضحة، لكن سيبقى كيان أرمني معيّن قائماً في الإقليم ولو بنسخة مخففة، مما يشير إلى المناطق التي بقيت تحت سيطرة الأرمن عند انتهاء الحرب.ستقوم قوة مؤلفة من ألفَي عنصر روسي لحفظ السلام بدوريات في هذه المناطق، تزامناً مع إنشاء ممر يصل إلى أرمينيا مروراً بمنطقة "لاتشين"، لكن لم تتأكد بعد مشاركة أنقرة في مهمة حفظ السلام الروسية لأن الاتفاق لم يأتِ على ذكر تركيا.مع ذلك، وقّع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو ونظيره التركي خلوصي آكار مذكرة أخرى لإنشاء مركز مشترك لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار في الأراضي الواقعة تحت سيطرة أذربيجان.ربما أنهى الاتفاق الجديد حرباً كارثية أسفرت عن مقتل آلاف الناس، لكن تكثر في المقابل العوامل التي تُشكّك في إمكانية إرساء سلام دائم، فقد تحتفل أذربيجان بما حققته في الوقت الراهن، لكنّ الوضع المستجد يترافق مع عدد كبير من المسائل العالقة، ومن الواضح أن عودة القوات الروسية الميدانية إلى أذربيجان تفتح صفحة جديدة في عملية حفظ السلام الجيوسياسي في جنوب القوقاز.ينصّ الاتفاق على استمرار مهمّة حفظ السلام الروسية لخمس سنوات ثم تجديدها تلقائياً بعد انقضاء تلك المهلة إلا إذا انسحب أحد الأطراف من الاتفاق، ومن المتوقع أن يؤثر احتمال انسحاب أذربيجان على جهود إعادة الإعمار بعد الحرب ومحاولات إرساء وضع طبيعي خلال السنوات الخمس المقبلة.قد تضطرب العلاقات بين روسيا وأذربيجان سواء تجدّد التفويض الروسي أو رُفِض تمديده، مما يعني ضرورة التدقيق بهذه العلاقة الثنائية كل خمس سنوات بناءً على ديناميات غير متوقعة، ولا مفر من أن يترافق هذا الوضع مع تداعيات جدّية لأن أرمينيا قد تعتبر عدم تجديد المهمّة الروسية تمهيداً لتأجيج العنف.من دون وضع استراتيجية خروج واضحة، قد تصبح قوات حفظ السلام قريباً أقرب إلى قوة احتلال، وترتكز استراتيجيات الخروج عموماً على اتفاقيات قوية والتزامات بأنواع جديدة من السياسات، لكنه عامل مفقود في العلاقات الأرمنية الأذربيجانية.في النهاية، لا تتوقف الاتفاقيات القوية على حجم قوات حفظ السلام أو مدة مهامها بل على السلطة السياسية الكامنة وراءها، ولن تتضح طبيعة تلك السلطة إلا عبر إطلاق عملية جدّية لمعالجة الأسباب الأصلية للصراع بين أرمينيا وأذربيجان وحل القضايا الخلافية التي أنتجتها الحرب الأخيرة، بدءاً من عمليات التهجير القسرية الجديدة وصولاً إلى جرائم الحرب المحتملة ومصير التراث الثقافي في الأراضي التي تغيّرت ملكيتها.إذا لم تُعالَج هذه المسائل، فستتفاقم المشاكل المرتقبة وتتراكم القضايا العالقة، مما يؤدي إلى إعاقة أي حوار فاعل بين أرمينيا وأذربيجان، حتى أن هذا الوضع قد يجازف بالخلط بين هوية المنتصر والضحية، لكن ستكون الأدوار مقلوبة هذه المرة مقارنةً بفترة التسعينيات، مما يعني نقل جولات الصراع إلى الجيل المقبل.باختصار، نجحت مساعي روسيا لأقلمة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في إنقاذ حياة الناس في الوقت الراهن تزامناً مع حماية مصالحها في جنوب القوقاز على المدى القصير، لكنّ هذا الاتفاق الهش لا يضمن السلام على المدى الطويل.* لورانس برويرز*
مقالات
ما وراء السلام الروسي المفروض على أرمينيا وأذربيجان لوقف إراقة الدماء
18-11-2020