الشعبوية بعد ترامب
خسارة ترامب تحذير لغيره من الشعبويين من اليمين المتطرف، مثل الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وحتى لو ظل هؤلاء القادة يتمتعون بشعبية كبيرة في الوقت الراهن فإن صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة أو استمرارها ليس أمراً حتمياً.
قبل أن يصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، بنى شخصية تلفزيونية واقعية شعارها «أنت مطرود»، والآن أصبح مطرودا من الشعب الأميركي، ووجهت هزيمة ترامب ضربة مدمرة للشعبويين القوميين في أوروبا وفي أماكن أخرى، فهل يمكن أن تكون قاتلة؟ولم تُجَفف المستنقعات التي تولد القومية الشعبوية، فمازال الكثير من الناس محبطين بسبب فقدانهم المتصوَر للوضع الاقتصادي والاجتماعي، ويشعرون بالتجاهل أو الإساءة من قبل ساسة السلطة، ولا يزال ركود الأجور، وتراجع التصنيع، والظلم الاقتصادي من بين التحديات الخطيرة، ويعتقد الكثيرون أن الهجرة والتغيير الثقافي يشكلان تهديدا لسلامتهم وأسلوب حياتهم، كما أن أزمة كوفيد19 ضاعفت من هذه المخاوف.وانعكس استمرار هذه المخاوف ومشاعر الإحباط هذه في نتائج الانتخابات الأميركية، فعلى الرغم من تفوق الرئيس المنتخب جو بايدن على ترامب بفارق يزيد على خمسة ملايين صوت- أي 3.4 نقطة مئوية- فإن أكثر من 72 مليون أميركي ما زالوا يدلون بأصواتهم للرئيس المنتهية ولايته.
ومع ذلك، أظهر بايدن أنه يمكن هزيمة الشعبوية، ليس فقط عن طريق المزيد من الشعبوية، فبعيدا عن استخدام أساليب الشعبويين، أو تأييد وجهات نظرهم العالمية، أو التمسك بأحكامهم المسبقة، بنى بايدن ائتلافا انتخابيا واسعا حول وعد بالتغيير الإيجابي، والاعتدال الرصين، والحوكمة المختصة، ويحمل هذا درسا بالغ الأهمية بالنسبة إلى الأحزاب السياسية من يسار الوسط ويمينه في أوروبا، التي كانت أحيانا تستسلم للإغراء الشعبوي- مثل ترديد آرائها المحافظة اجتماعيا والمناهضة للهجرة- في محاولة منها لكسب الأصوات.وخسارة ترامب هي أيضا تحذير لغيره من الشعبويين من اليمين المتطرف، مثل الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ففي وقت سابق من هذا العام، قال أوربان، "كنا نعتقد أن أوروبا هي مستقبلنا؛ نحن نعلم اليوم أننا مستقبل أوروبا"، ولكن هزيمة ترامب، جعلت كلماته تبدو جوفاء، وحتى لو ظل هؤلاء القادة يتمتعون بشعبية كبيرة في الوقت الراهن، بالنسبة لبولسونارو، بفضل المساعدات السخية التي قُدمت للمواطنين لمواجهة كوفيد،19 فإن صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة أو استمرارها ليس أمرا حتميا.وإلى جانب تحطيم هذه الرواية الحتمية التي تخدم الذات، فإن خسارة ترامب تشوه سمعة سياساته المعيبة بشدة، مما يقلل من جاذبيتها للآخرين، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، اتبع ترامب نهجا يزعم من خلاله بلا خجل أنه يضع "أميركا في المقام الأول"، ويدوس على المعاهدات التجارية، ويسيء استخدام العقوبات في محاولة لمنح الشركات والعمال في الولايات المتحدة ميزة.وفي هذا السياق، كاد السعي وراء حلول السوق المفتوحة المتعددة الأطراف والتعاونية يبدو سياسة ساذجة للآخرين، بما فيهم الحكومات الأوروبية. وفي حين كان ساسة التيار السائد يميلون إلى الحمائية، بدت القومية الاقتصادية المتطرفة التي اعتمدها أمثال التجمع الوطني الفرنسي (الجبهة الوطنية سابقا) تزداد منطقية، وفضلا عن ذلك، كما أوضحت في كتابي الجديد، "هم ونحن: كيف يمكن للمهاجرين والسكان المحليين أن يزدهروا معا"، فإن خطاب ترامب المعاد للأجانب، وتشجيعه للمشاعر المعادية للمهاجرين فتح الطريق أمام سياسات الهجرة القاسية في الداخل والخارج. وبطبيعة الحال، لم تكن بعض الحكومات الأوروبية بحاجة إلى تشجيع لشيطنة المسلمين، أو إقامة أسوار حدودية من الأسلاك الشائكة، أو احتجاز طالبي اللجوء في معسكرات قذرة، ففي الواقع، بدأوا بالقيام بذلك قبل انتخاب ترامب، لا سيما خلال أزمة اللاجئين التي اندلعت في الفترة 2015-2016. ولكن تصرفات إدارة ترامب أعطت لمناهضي الهجرة في أوروبا دفعة قوية.وعلى سبيل المثال، استمتع ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف في إيطاليا ووزير داخلية البلاد خلال الفترة 2018-2019، بلقب "ترامب إيطاليا"، حيث منع قوارب كان على متنها مهاجرون تم إنقاذهم من الرسو في الموانئ الإيطالية. وعندما رفضت إدارة ترامب في عام 2018 الموافقة على الميثاق العالمي غير الملزِم من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، حذت تسع حكومات في الاتحاد الأوروبي حذوها. وسيكون بايدن نموذجا مختلفا تماما، حيث من المرجح أن يقوي الأممية ويضعف القوميين في أوروبا، ومن المؤكد أن الرئيس المنتخب لا يسعى وراء التجارة الحرة والهجرة غير المقيدة، لكنه يعترف بفوائد السياسة الخارجية للتعاون التجاري مع حلفاء أميركا الأوروبيين، وقد تعهد بإلغاء بعض سياسات الهجرة الأكثر إثارة للجدل التي اعتمدتها إدارة ترامب في غضون أيام من توليه منصبه، وكذلك إعادة تشكيل نظام الهجرة الأميركي على المدى الطويل، وسيلغي بايدن، أيضا، نهج ترامب تجاه تغير المناخ، وسيبدأ بالعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ في اليوم الأول من رئاسته.ومع نهاية ولاية ترامب، لن تتراجع شرعية السياسيين الشعبويين على المستوى المحلي فحسب؛ بل ستواجه الحكومات سعرا دوليا أعلى للمواقف القومية، فقد كان ترامب حليفا قويا للحكومات القومية في أوروبا، خصوصا في المجر وبولندا، فعندما دخل حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا في صراعات مع ألمانيا وتحدى سياسات الاتحاد الأوروبي بشأن اللجوء والاستقلال القضائي وقضايا أخرى كثيرة، شعر بالثقة في أنه حتى لو انقلب شركاؤه الأوروبيون عليه، فإن ترامب سيحميه من أمثال روسيا الانتقامية بقيادة فلاديمير بوتين، ومع وجود بايدن في البيت الأبيض ستشعر الحكومة البولندية بمزيد من الضغط حتى تكون بناءة. وينطبق الشيء نفسه على رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، حيث دافع ترامب عن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باعتباره تعبيرا عن السيادة، وشجع جونسون على اتخاذ موقف صارم مع الاتحاد الأوروبي، مشددا على احتمال التوصل إلى اتفاق تجاري ثنائي لمكافأته.بايدن ليس من المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو كما قد يخمن المرء من المعجبين بجونسون، الذي من غير المحتمل أن يكون بايدن قد نسي إهانته العنصرية للرئيس باراك أوباما الذي "يعود جزء من أصوله إلى كينيا" خلال حملة الاستفتاء. وفضلا عن ذلك، أوضح بايدن، الذي ناقش أصوله الأيرلندية مرارا، أنه لن يقبل أي تهديد للسلام في أيرلندا الشمالية، ومع نفاد الوقت للتفاوض على اتفاقية التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يتعرض جونسون الآن لضغوط أكبر بكثير للوصول إلى حل توفيقي.لذا، فإن القومية الشعبوية لم تمت، ولكن يمكن هزيمتها، ومن المرجح أن يسهّل سقوط ترامب ذلك، فهل الأوروبيون قادرون على أداء المهمة؟* فيليب ليغرين، المستشار الاقتصادي السابق لرئيس المفوضية الأوروبية، وزميل أول زائر في المعهد الأوروبي لكلية لندن للاقتصاد، ومؤلف كتاب «هم ونحن: كيف يمكن للمهاجرين والسكان المحليين أن يزدهروا معا».«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»