مثل تراجع أسعار النفط مصدر قلق كبيرا لبلدان منطقة الشرق الأوسط والخليج على وجه الخصوص، لاعتمادها بشكل أساسي على الإيرادات النفطية لتغطية نفقاتها، حيث اضطرت العديد من دول الخليج للشروع في تنويع اقتصاداتها عوضا عن الاعتماد على النفط. وفي حين كان مستقبل دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط موضوعا للنقاش بشكل متزايد داخلها، فإن الولايات المتحدة يحب أن تدرك المخاطر الاقتصادية المزدوجة الناتجة عن تفشي وباء فيروس كورونا، وما تلاه من انخفاض لأسعار النفط التي من المحتمل أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار بشدة، وعلى هذا النحو فإن الابتعاد عن الدبلوماسية حول سوق النفط، لا سيما في المنطقة، يجب أن يُفهم على أنه مصدر تهديد للمصالح الأميركية ويجب التعامل معه وفقا لذلك.بالنسبة لحلفاء أميركا في المنطقة، كان لانخفاض أسعار النفط نتيجتان رئيسيتان: بالنسبة لدول الخليج كان تأثير انخفاض أسعار النفط الخام على السعودية طفيفاً نظرا لامتلاك المملكة احتياطا ماليا استراتيجيا يقدر بـ 700 مليار دولار تقريباً. كما سعت دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالفعل إلى تنويع اقتصاداتها تحسبا لحدوث انخفاض عالمي في الطلب على النفط الخام مع تحول المزيد من الدول نحو الطاقة المتجددة، ومع ذلك شهدت السعودية خلال الربع الثاني من العام انخفاضا في اقتصاداتها النفطية وغير النفطية على حد سواء، حيث تقلص اقتصادها بنسبة 5.3٪ و8.2٪ على التوالي، وارتفعت نسبة البطالة أيضا إلى 15.4٪، مما يعكس التأثير المستمر لأسعار النفط المنخفضة وانخفاض الطلب.
إن الوضع في العراق، الذي كان بؤرة تنافس بين المصالح الأميركية والإيرانية، أسوأ بكثير، حيث أثر تراجع أسعار النفط الخام بشكل رئيس في اقتصاده الريعي الذي يعتمد بنسبة 93% على عائدات النفط وتسبب في حدوث أزمة اقتصادية كبيرة أبرزتها "الورقة البيضاء" للإصلاح، واضطرت الحكومة العراقية إلى اللجوء للحصول على قروض محلية وأجنبية لتغطية نفقات الدولة، وهو مؤشر خطير لأي حكومة، وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية الحالية تعمل عن كثب مع الولايات المتحدة لتعميق العلاقات الثنائية على الصعيدين الأمني والاقتصادي، فإن البلاد معرضة لحالة من عدم الاستقرار من جانب أطراف تؤثر على زعزعة أمن البلاد.وفي حين يتفق الجميع على أن الانخفاض في أسعار النفط يمثل تحديات كبيرة للعديد من دول الشرق الأوسط، فإن تأثير ذلك على السياسة الأميركية غير واضح، ونتيجة التدخل الأميركي تم جمع الفرقاء (السعودية وروسيا) الى طاولة الحوار لإجراء المفاوضات للخروج من أزمة هبوط أسعار النفط التي دفع ثمنها الكل بلا استثناء، حيث جاء هذا التدخل نتيجة قناعة الولايات المتحدة بأن استمرار انهيار أسعار النفط بهذا الشكل ليس من مصلحتها، بل يؤثر على الداخل الأميركي أيضا، بمعنى آخر فإن استمرار هذا الانهيار ليس من مصلحة الجميع، وقد تمخضت هذه المفاوضات بالتوصل أخيرا إلى اتفاق أطلق عليه اتفاق "أوبك بلس"، بحيث يقضي هذا الاتفاق بتخفيض إنتاج النفط في شهري مايو ويونيو ويستمر التخفيض بنسب معينة للأشهر المتبقية والى نهاية عام 2020. عانت كل من المملكة العربية السعودية وروسيا من العواقب الاقتصادية لحربهما الإنتاجية، وكان الهدف من الصفقة دعم أسعار النفط واستعادة درجة من الحياة الطبيعية.وفي النهاية، كانت الصفقة ضرورية لجميع الأطراف الثلاثة، الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية، حيث جنبتهم حدوث كارثة في قطاعات الطاقة الخاصة بهم، وفي حين يمثل إنتاج النفط في الشرق الأوسط أهمية اقتصادية للمصالح الأميركية، فإن التداعيات الأمنية للحفاظ على الاستقرار مهمة أيضا، حيث سيشكل هبوط أسعار النفط تحديا كبيرا للبلدان التي تعتمد إلى حد كبير على مداخيل النفط لدعم ميزانياتها الحكومية والإنفاق الحكومي، وهذا التدهور في الإنفاق الحكومي يمكن أن يؤدي إلى تقويض استقرار النظام في العديد من دول الشرق الأوسط (لا سيما تلك التي تعتمد بشكل أساسي على عائدات النفط)، وإثارة الاضطرابات المحلية، كما حدث في الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات.تمتلك الولايات المتحدة أصدقاء وحلفاء في المنطقة يتطلعون إلى الدعم مقابل التزامهم برعاية مصالحها، وأصدقاء قدامى آخرين يجب عليها حمايتهم، ولولا الضغط الأميركي لما خفضت السعودية إنتاج النفط الخام ولما فاوضت روسيا للتوصل إلى اتفاق والتوقف عن إغراق السوق لغرض إعادة التوازن إلى أسواق النفط العالمية وإنقاذ شركات النفط الصخري الأميركي. يبرز هذا المشهد مدى قوة الولايات المتحدة في إدارة الاقتصاد العالمي بشكل عام وأهمية الحفاظ على حلفاء مخلصين لها في المنطقة مستعدين للعمل معها والاستماع إليها. ومع ذلك، فإن تراجع الولايات المتحدة عن تأدية هذا الدور سيجعلها أقل استعدادا للعمل كوسيط في ظروف مهمة مثل هذه، مما يضر بالقدرة الأميركية والإقليمية على تجاوز الصراع المستمر حول تسعير النفط وخفض الإنتاج. على الولايات المتحدة أن تنتهز فرصة التحدي السياسي هذه وتعمل على زيادة مشاركتها الإقليمية ومواصلة إعادة التفكير في أولوياتها، مما قد يمهد الطريق لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، لذلك يجب أن يدرك صانعو السياسة الأميركية أن تراجع الوجود الأميركي في المنطقة قد يكون له عواقب وخيمة يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الولايات المتحدة من خلال مزيج مميت من الإرهاب والصدمات في سوق النفط العالمية.* محمد رياض إسحاق - منتدى فكرة
مقالات
الحاجة إلى مشاركة أميركية أوسع في الخليج
18-11-2020