أفرجت السلطات التركية منذ أسبوعين عن العميد السوري أحمد رحال- الذي انشق بالأساس عن النظام السوري- بعد أشهر على اعتقاله على خلفية انتقاده القوي والعلني للجيش الوطني السوري وسياسات القوات المدعومة من تركيا في المناطق المحررة، كما يزعم المراقبون، ويمثل اعتقال رحال ذروة الاستياء في الأوساط العسكرية السورية العاملة في المنطقة الشمالية الخاضعة لسيطرة المعارضة في سورية، بسبب نقص الدعم وتحديات التهجير التي يواجهها المدنيون السوريون، وكلاهما بتسهيل جزئي من قِبل تركيا.ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها تركيا لانتقادات من قِبل سوريين كانوا مؤيدين لها في السابق، فمنذ أشهر، تعاملت القوات السورية المدعومة من تركيا مع الاستقالة غير المتوقعة للعقيد المنشق فضل الله الحجي من منصبه في قيادة الجبهة الوطنية للتحرير ومن هيئة الأركان العامة للجيش الوطني في قطاع إدلب، وشكلت استقالته صدمة لافتة بما أن العقيد كان يُعتبر مدعوما من الحكومة التركية.
كما لم تكن هذه ظاهرة محصورة بالضباط الأفراد، فقد انسحب قرابة 2000 جندي- تعود أصولهم الى مدينة حمص- من الجيش الوطني ليؤسسوا فصيلا مستقلا باسم خالد بن الوليد، وكذلك استقال ضباط وجنود من الجيش الوطني السوري- التابع لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، التي تشكلت من مجموعة فصائل لا تزال تعمل في مناطق المعارضة- احتجاجا على التدخل التركي المباشر في تعيين القادة ومنح المناصب من دون مراعاة التراتبية العسكرية، ويشير هذا إلى شرخ كبير في السياسة التركية تجاه حلفائها الظاهرين على الأرض وبين دعم تركيا المزعوم لقضية السوريين ضد استبداد الأسد.وشملت الاتهامات الموجهة إلى تركيا على الصعيد العسكري ضبط الإمدادات وشروطها وفرض التبعية على تشكيلات القوات وعدم التعاون مع القادة والعسكريين السوريين في توجيه الدورات، بالإضافة إلى ذلك أصبح بعض الضباط السوريون قلقين بشكل متزايد من توقيت المعارك وإدارتها، خصوصا عندما باتوا يلاحظون كيف تؤدي هذه المعارك إلى تسويات بين روسيا وتركيا وأنها مصممة وفقاً لمصالح الدولتين بغض النظر عما يراه المقاتلون السوريون مفيداً لسورية.بالرغم من أن تركيا تشير في الكثير من الأحيان إلى حلفائها السوريين كدليل على الترحيب بدورها في سورية، يعتقد الكثيرون في الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا أن وقف الدعم من مصادر أخرى كان بمثابة بداية لتعزيز الهيمنة التركية عليهم مما أضعفهم في نهاية المطاف كقوة مقاتلة، فهم يعتبرون أن الدعم التركي يؤثر على استقلالية صنع القرار لديهم ويحوّل الجيش الوطني السوري من مؤسسة سورية تقف بوجه نظام الأسد إلى ذراع تركي ممتد في سورية.وقد ترسخ هذا الانطباع لدى الضباط السوريين من خلال استيلاء الروس والنظام بسرعة وسهولة على مدن كبرى واستراتيجية مثل سراقب والنيرب ومعرة النعمان، وتمت خسارة هذه المدن بسبب عدم وجود الإمدادات التركية المتفق عليها لدعم الفصائل، وأدت هذه المسألة دورا أساسيا في التراجع التركي من الطريقين السريعين الدوليين الحيويين M4 وM5، فقد قال عناصر عسكريون من المنطقة إن دخول القوات التركية إلى تلك المنطقة لم يكن لدعم نقاط المراقبة الاستراتيجية التي تسيطر عليها القوات السورية، ولا لردع النظام عن التقدم، بل للتحضير لوقف إطلاق نار استراتيجي، تم التوصل إليه بين روسيا وتركيا في مارس.ومذّاك، قامت روسيا وتركيا بتسيير دوريات مشتركة على هذه الطرق السريعة- بالرغم من غياب روسيا عن بعضها- بعد إفراغ محيطهما من السكان والفصائل العسكرية، من ترنبة شرق إدلب إلى عين الحور شمال اللاذقية، وبالرغم من محاولات السيطرة على هذه المنطقة، فلا تزال تشهد تفجيرات وأعمال عنف تتسبب في سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجيشين الروسي والتركي.أدت المواجهات العسكرية السابقة بين ميليشيات النظام والقوات التركية إلى سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الجيش التركي للمرة الأولى في الصراع المستمر منذ سنوات، مما أثار غضبا شعبيا داخل تركيا، واستطاعت الحكومة التركية استغلال هذا الغضب كذريعة لحشد تواجد عسكري أكبر في سورية، وفي هذه الحالات، لم يؤدِ تدفق الجيش التركي إلى إنقاذ القوات السورية المدعومة من تركيا، بل إلى تمركزها بشكل مقصود واستراتيجي لتحقيق الأهداف التركية، ودفع الضغط التركي على روسيا الناتج عن ذلك الدولتين إلى مسارات التفاهمات الثنائية السابقة التي حصلت في سوتشي وموسكو وأماكن أخرى.وفي حين ينتاب الوحدات العسكرية السورية غيظ تجاه تركيا، يعاني المدنيون السوريون أيضا من سياسات تركيا، بما أن تركيا وروسيا، من بين دول أخرى، تواصلان الصراع القائم على المصالح واتباع السياسات التي تناسب مصالحهما على أفضل وجه. فعلى الرغم من الاختلاف الظاهر، فقد عكست استجابة تركيا للتهجير الجماعي للمدنيين السوريين حقيقة موقفها، كما يحدث اتجاه الوحدات العسكرية السورية التي تدعمها ظاهريا.من خلال القراءة بين السطور، يتضح أن التهجير القسري والعنيف للسوريين كان هدفاً بحد ذاته للنظام السوري منذ بداية الحرب. فالدعوة إلى "سورية المتجانسة" طالبت بالتصفية العرقية والتغيير الديمغرافي، وتجدر الإشارة هنا إلى اتفاقيات التبادل في المدن الأربع (الزبداني وداريا وكفريا والفوعة)، ضمن اتفاق إيراني مع المقر الرئيس لهيئة تحرير الشام، التي تم الاتفاق بحضورها على إفراغ حمص القديمة وحي الوعر في حمص، بعد تجويع للمدنيين برعاية إيرانية.انتهى المطاف بالعديد من سكان الداخل السوري- الذين فرّوا من هذه التصفية- في إدلب، حيث حشدتهم تركيا مع سكان إدلب ليشكلوا بشكل أساسي جدارا حدودياً بشرياً من المكوّن العربي السني المعارض لنظام الأسد، كما تعرّض هؤلاء المدنيون للاستنزاف والتهجير وإعادة التوطين في مناطق الصراع الكردي-التركي من أجل حماية الحدود التركية، مما يجعلهم جدارا حامياً للهدف القومي التركي، بحسب قادة تركيا، كونهم يشكلون رادعاً أمام الميول الانفصالية الكردية في تلك المنطقة، تحت عنوان إنشاء منطقة آمنة يسكنها المهجرون، حتى لو كان ذلك تهجيراً جديداً لسكانها الأصليين، كما حدث في عفرين.أصبحت تركيا مستعدة بشكل صارخ لاستخدام اللاجئين السوريين على أراضيها، إلى جانب واقع أنها تسيطر على الممر بين سورية وأوروبا، كوسيلة للضغط على المجتمع الدولي عند الحاجة، سواء لطلب المساعدة أو لزيادة الضغط من أجل تنفيذ مشروعها المتمثل بالمنطقة الحدودية "الآمنة"، واعتمدت تركيا على تهديداتها بدفع المهجرين عبر البحر لتحقيق ذلك ضمن نزاعها مع الدول ذات المصالح المتضاربة في الصراع السوري، كالحل الحتمي، مما يشكل على ما يبدو البند غير المعلن ضمن الشروط. إن التفاهمات التركية-الروسية، التي أدت إلى تسليم النفوذ على كل من طريقي التجارة الدولية M4 وM5 والمدن الاستراتيجية إلى روسيا والنظام مقابل مناطق أخرى من النفوذ التركي، تُظهر التركيز على الأهداف الاستراتيجية التركية أكثر منه على القوات التي ما زالت تقاتل الأسد من أجل سورية، وبدلاً من ذلك، يبدو أن تركيا تعمل على تكوين مجموعة من النازحين السوريين على طول الحدود التركية السورية، على الرغم من أن منطقة كوباني-عين العرب لا تزال تحت السيطرة الروسية، ولا يخفى على أحد أن كوباني هي نقطة الوصل لتحقيق الحاجز البشري الحدودي المتواصل المذكور بين تركيا والقوات الكردية، المبني على حساب الجياع والمشردين السوريين، الذين لم يتبقَ لهم سوى التطلع إلى حل يعيدهم إلى مدنهم الأصلية ومنازلهم المدمرة.يدرك السوريون أنه لن يتم التوصل إلى حل ما لم تتم معادلة القوى بين أطراف الصراع، لذلك، يعتقدون أنه يجب أن يتوافر دعم وتمكين أميركيين لمشروع الجيش الوطني السوري الذي يشمل الكفاءات العسكرية التي نأت بنفسها عن كل من النظام والسيطرة التركية، فهذه القوى المحبطة اليوم يمكن أن تشكل نواة لجيش يندرج تحت مظلة سياسية سورية شاملة، ولديه إمكانية الاتحاد ضمن كيان واحد منضبط وملتزم بمصالح سورية الموحدة الداعمة لمواطنيها، وإشارةً إلى أن هذه المنظمة من شأنها الاعتراف بالاتفاقيات الدولية ومراعاة الجوار والمصالح المشتركة.في هذا السياق، يحتاج المدنيون السوريون إلى جيش يقاتل من أجلهم، فالجيش الوطني السوري الذي يقاتل من أجل الشعب السوري سيركز على تعزيز الأمن، فيفتح بذلك ممرات آمنة لإعادة اللاجئين من الخارج والنازحين داخليا إلى مدنهم الأصلية، على النحو المنصوص عليه في قانون قيصر، وهذا النوع من القدرة والنفوذ في الداخل السوري لا تملكه تركيا أو أي قوة أخرى موجودة حالياً، هو الذي سيكون قادرا على العمل على تجفيف منابع التطرف الديني والعرقي في البلاد والعمل باتجاه بداية جديدة لسورية مستقرة وآمنة وحرة.● عشتار الشامي
دوليات
السوريون يُقِرون بشكل متزايد بدور تركيا المعطِّل في بلادهم
20-11-2020