في 27 أغسطس الماضي، قامت حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بتشكيل لجنة للتحقيق في قضايا الفساد الكبرى في العراق، معترفة بحالة الإحباط المستمر بين العراقيين من الفساد المستشري الذي ابتليت به البلاد، فبعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين، فشلت الحكومات المتعاقبة في إدارة القضايا الاقتصادية والأمنية في البلاد، أو تحسين الظروف المعيشية والخدمات العامة للشعب العراقي، بل ازداد الفقر، عاما بعد عام، وارتفعت نسبة البطالة وتقلصت فرص العمل، نتيجة فساد الحكومات المتوالية، إذ تسببت بخسارة المليارات من الدولارات ووضعتها في جيوبها ومصالحها الخاصة، مما جعل العراق في المرتبة العشرين ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم.ومع ذلك، هناك أسباب تدفعنا للتفاؤل بأن لجنة الكاظمي تقوم بالفعل بما وعدت به، ففي سبتمبر الماضي، اتخذ الكاظمي عدة خطوات ضد عدد من المسؤولين الماليين العراقيين بتهم فساد، من بينهم المدير السابق لمديرية التقاعد الوطنية أحمد الساعدي الذي ألقت قوات جهاز مكافحة الإرهاب القبض عليه في العاصمة بغداد، في حين اعتقلت قوة أمنية مدير شركة كي كارد بهاء عبدالحسين في مطار بغداد الدولي، على خلفية مزاعم تورطه في شبكة كبيرة لغسل الأموال يستخدمها سياسيون عراقيون، كما أصدرت محكمة تحقيق النزاهة في الكرخ قرار حظر سفر لوزير الكهرباء العراقي السابق لؤي الخطيب ورئيس الدائرة المالية والإدارية السابق في وزارة الكهرباء بتهم متعلقة بالفساد.
والجدير بالذكر أنه حتى من هم داخل الدائرة المقربة من الكاظمي لا يبدو أنهم محصنون، ففي 4 نوفمبر، اعتقلت قوات الأمن العراقية رعد الحارس بناء على شكوى من لجنة التحقيق الدائمة، وجاءت مذكرة توقيف نائب وزير الكهرباء السابق على الرغم من منصب الحارس الحالي كمستشار للكاظمي.ومع ذلك، فإن مكافحة الفساد في العراق ستتطلب إجراءات إضافية أكثر من مجرد الاعتقالات الفردية، حيث أدت المعاملات الفاسدة والمنافسة بين الكتل السياسية الى تفشى الفساد داخل الجهاز الحكومي، ففي كثير من الأحيان تضغط الكتل السياسية العراقية على بعضها لقبول صفقات ترتبط بمصالح شخصية أو تقديم تنازلات لبعضها تعود بالفائدة على تلك الكتل أكثر مما تفيد الدولة العراقية وشعبها. ومن ثم، أتت المنافسة بين الأحزاب والكتل السياسية بنتائج سلبية ألقت بظلالها على الخدمات التي تقدمها الدولة وأثرت على الظروف المعيشية للشعب العراقي، مما انعكس على إتاحة الوصول للمرافق الأساسية والتعليم والرعاية الصحية. لذلك، فإن التغاضي عن معالجة الآثار المنهجية للفساد، سيُبقى الشعب العراق في حالة إحباط من التأثير السلبي الذي يفرضه النظام الحالي عليهم.من أبرز ملفات الفساد التي مرّت على تأريخ الحكومات الجديدة، بعد 2003 ملف الفساد المالي والإداري في الطاقة الكهربائية، ففي عام 2016 في زمن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي تم إنشاء محطة توليد الطاقة الكهربائية بطاقة 500 ميغاواط بقيمة 400 مليون دولار تعمل على الغاز بدلًا من النفط على الرغم من أن العراق من البلدان المنتجة للنفط، مما دفع العراق لاستيراد الغاز، الذي يكلفه ملايين الدولات سنويا. لذلك، يبدو أن استقرار البلاد والاكتفاء الذاتي صار يحقق خسارة كبيرة للمافيا المسيطرة على الوزارات وأصحاب القرار المستفيدين من صفقات الفساد التي أضعفت الدولة وأفلست الخزينة، وقادت البلاد إلى الاقتراض الخارجي الذي أرهق الدولة وأغرقها بديون سابقة ما زال العراق يدفع فواتيرها.وفى هذا الصدد، قال الكاظمي في بيان رسمي "إن ما أنفقته الدولة من مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء، كانت تكفي لبناء شبكات كهربائية حديثة، إلا أن الفساد والهدر المالي وسوء الإدارة حال دون معالجة أزمة الطاقة الكهربائية في العراق". وجاء البيان في صيف العام الحالي حيث عانى المواطنون ارتفاعا في درجة الحرارة دون وجود كهرباء يمكن الاعتماد عليها، في حين ذكر مسؤول عراقي أن حجم الفساد في وزارة الكهرباء وصل إلى 41 مليار دولار منذ عام 2003.أثر الفساد الفساد المالي والإداري بشكل كبير على مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها الخدمية، منها المؤسسات الصحية، حيث كشف تفشي فيروس كورونا هشاشة النظام الصحي وكشف عيوبه، وما زال المواطن العراقي يعاني عدم الحصول على العلاج الكافي والرعاية الصحية في المستشفيات الحكومية، رغم الموازنات الحكومية الكبيرة التي تفوق موازنات عدة، ففي عام 2019 الذي كان يشهد استقرارا أمنيا، بلغت موازنة العراق 106.5 مليارات دولار لكن الحكومة العراقية آنذاك خصصت فقط 2.5% منها لوزارة الصحة، في حين أعطت 18% للأمن، و13.5 لوزارة النفط.وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز ذكرت فيه بيانات لمنظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الحكومة العراقية أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ حصة الفرد العراقي من هذا الإنفاق قرابة 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 في الأردن، و649 في لبنان.أثر الفساد أيضا على المؤسسات التعليمية، فبعد أن كان العراق في طليعة البلدان المتقدمة في مجال التعليم خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، أدى إهمال التعليم إلى تراجعه إلى مستويات دنيا، فقد غاب العراق عن مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر من المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس لعام 2015-2016، ولعل السبب الذي يقف وراء هذا الفشل الكبير هو الفساد في وزارة التربية.ونتيجة الفساد والإهمال الذي أدى إلى ضعف مستوى التعليم، وعدم توافر فرص العمل للخريجين الجدد من الجامعات العراقية، يلجأ الخريجون إلى العمل بتخصصات غير التخصص الذي درسوه في الجامعة أو المعهد، في حين يقرر عدد من الطلبة ترك صفوف المدارس واللجوء إلى سوق العمل، وما جعل الأمر أكثر سوءا هو نظام المحاصصة المعمول به والذي من خلاله يحصل البعض على وظيفة حكومية باستخدام العلاقات والوساطة على أساس ديني أو انتماء حزبي، فيما يعاني آخرون في الحصول على عمل نتيجة عدم امتلاكه الواسطة أو الانتماء الحزبي.هذا الواقع جعل الشباب العراقيين يشاهدون نسبة البطالة وهي ترتفع في بلادهم في ظل الحكم الفاسد، حيث بلغ معدل الفقر في عام 2018 حوالي 20% في حين ارتفع في العام الحالي إلى 31.7% بحسب تصريح وزير التخطيط العراقي خالد بتال النجم لوسائل الإعلام، وترتفع نسبة الفقر في المحافظات الجنوبية، ففي محافظة المثنى وصلت نسبة الفقر فيها إلى 52%، كما بلغت نسبة البطالة عام 2018 إلى 22.6 في حين وصلت هذا العام إلى 40%.ثمة تأثيرات أخرى تسبب بها الفساد في العراق، منها عدم الاستقرار الأمني، خوف الشركات العالمية من دخول العراق للاستثمار بعد أن تعرضت كثير من الشركات إلى الابتزاز وإجبارها لعقد الصفقات الكاذبة، مما يربك مسير بناء البلاد، وخصوصا المناطق المدمرة بسبب الحروب، لا تزال مدن تحت الدمار، وأن عملية البناء والإعمار فيها خجولة لا ترتقي للمستوى المطلوب أو الذي يطمح إليه الأهالي في تلك المناطق، في ظل تقديم الحكومة الحالية ورقة الإصلاح البيضاء التي من شأنها حلّ مشاكل البلاد الاقتصادية والمالية، وتعول الكتل السياسية على هذه الورقة علّها تجد طريقها لإنهاء خيوط الفساد التي أورثتها الحكومات السابقة.ورغم الجهود المبذولة للحد من الفساد وتنشيط الاقتصاد العراقي، يرى كثير من العراقيين أن إجراءات الكاظمي في القضاء على الفساد مجرد استعراض إعلامي، وليس هناك جدّية مقنعة في ذلك، وإن كانت هناك خطوات لكنها خجولة جدا أمام منافذ الفساد الكبرى، وتماسيح الفساد الذين يتمتعون بالمال والسلطة والسلاح والجماهير، والذين يسعون الى عرقلة مسيرة الكاظمي في استئصال جذور الفساد في البلاد. وفى ظل تلك المعوقات المؤسسية، ومع النضال المتزامن لإصلاح الاقتصاد العراقي، قد تتعرض حكومة الكاظمي لضغوط شديدة لتلبية المطالب الشعبية.في غضون ذلك، من المرجح أن يستمر أثر الفساد المستمر في دفع العراقيين للخروج إلى الشوارع في حراك مستمر بدأ في أكتوبر 2019، وعلى الرغم من ارتفاع معدل الإصابات بفيروس كورونا، يواصل المتظاهرون حراكهم الشعبي من أجل الإسراع بتحقيق مطالبهم التي فشلت الحكومات السابقة في تحقيقها، وأبرزها القضاء على الفساد، والمطالبة بتوفير فرص العمل في وقت تعاني مؤسسات الدولة من وجود العاملين الفضائيين الذي تم توظيفهم وفق المحاصصة الحزبية والمحسوبية أو وفقا للانتماء الديني والمذهبي.في حين يتطلع العراقيون للحصول على حقوقهم الأساسية من مياه صالحة للشرب وكهرباء لا تنقطع، ورعاية صحية، وبنية تحتية، وفرص عمل، فإن ذلك لا يمكن تحقيقه دون تفكيك الفساد المزمن، حيث ستواجه الجهود المبذولة تحديات صعبة خصوصا أن المستفيدين من الفساد سيعملون بجد للحفاظ على الأنظمة التي تعمل لصالحهم، ومع ذلك، فإن تلك الجهود ضرورية حتى يستعيد الشعب ثقته في الحكومة. *أزهر الربيعي
دوليات
الفساد في العراق... رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يواجه تحدياً ممنهجاً للإصلاح
20-11-2020